فصل: الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة العاشرة في الرسائل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة العاشرة في الرسائل:

وهي جمع رسالة، والمراد فيها أمور يرتبها الكاتب: من حكاية حال من عدو أو صيد، أو مدح وتقريض، أو مفاخرة بين شيئين، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى. وسميت رسائل من حيث إن الأديب المنشئ لها ربما كتب بها إلى غيره مخبراً فيها بصورة الحال، مفتتحة بما تفتتح به المكاتبات، ثم توسع فيها فافتتحت بالخطب وغيرها.
ثم الرسائل على أصناف:
الصنف الأول منها الرسائل الملوكية وهي على ضربين:
الضرب الأول: رسائل الغزو:
وهي أعظمها وأجلها.
وهذه نسخة رسالة أنشأها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، رحمه الله بفتح الملك الظاهر لقيسارية من بلاد الروم، واقتلاعها من أيدي التتار، واستيلائه على ملكها، وجلوسه على تخت بني سلجوق، ثم العود منها إلى مملكة الديار المصرية؛ كتب بها إلى الصاحب بهاء الدين بن حنا، وزير السلطان الملك الظاهر، ومعرفة ماكان في تلك الغزوة، وما اشتملت عليه حال تلك السفرة؛ وهي: يقبل الأرض بساحات الأبواب الشريفة السيدية، الصاحبية البهائية- لا زالت ركائب السير تحث إلى أرجائها السير وصروف الزمن تسالم خدامها وتحل الغير بالغير، ولا برحت موطن البر ومعدن الجود وبحر الكرم وعكاظ الخير- وينهي بعد رفع أدعيته التي لا تزال من الإجابة محوطة، ولا تبرح يداه بها مبسوطة، أن العبيد من شأنهم إتحاف مواليهم بما يشاهدونه في سفراتهم من عجائب، وإطلاعهم على ما يرونه في غزواتهم من غرائب؛ ليقضوا بذلك حقوق الاسترقاق، وتكون نعم ساداتهم قد أحسنت لأفواههم الاستنطاق، ويتعرضوا لما عساه يعن من مراحمهم التي ما عندهم غيرها ينفد وما عندها باق.
ولما كان المملوك قد انتظم في سلك الخدم والعبيد، وأصبح كم له قصيد في مدح هذا البيت الشريف كل بيت منها بقصيد بيت القصيد، وأن في مآثره الرسائل الت يقد شاعت، وضاعت نفحاتها في الوجود وكم رسالة غيرها في غيره ضاعت- رأى أن يتحف الخواطر الشريفة من هذه الغزوة بلمح يختار منها من يؤلف، ويسند إليها من يؤرخ أو يصنف؛ وإنما قصد أن يتحف بها أبواب مولانا مع بسط القول واتساع كلماته، لأن الله قد شرف المملوك بعبودية مولانا: والله أعلم حيث يجعل رسالاته. فإن كان المملوك قد طول في المطارحة، فمولانا يتطول في المسامحة؛ وإن قال أحد: هذا هذى، فما زال شرح الوقائع مطولاً كذا؛ وتالله ما ورخ مثلها في التواريخ الأول، ولعمري إن خيراً من سيرة ذلك البطال سيرة هذا البطل، والأمر أعلى في قراءتها واستماعها، والتمهل في حجلها حتى تسفر حسن نقابها وترفع مسدول قناعها...............
قد أحاطت العلوم الشريفة بالعزمات الشريفة السلطانية، وأنها استصحبت ذلك، حتى تصفحت المهالك؛ وسرنا لا يستقر بنا في شيء منها قرار، ولا يقتدح من غير سنابك الخير نار، ولا نمر على مدينة إلا مرور الرياح على الخمائل في الأصائل والأبكار، ولا نقيم إلا بمقدار ما يتزيد الزائر من الأهبة، أو يتزود الطائر من النغبة؛ نسبق وفد الريح من حيث ننتحي، وتكاد مواطئ خيلنا بما تسحبه أذيال الصواف تمتحي، تحمل همنا الخيل العتاق، ويكبو البرق خلفنا إذا حأول بنا اللحاق، وكل يقول لسلطاننا نصره الله:
أين أزمعت أيهذا الهمام؟ ** نحن نبت الربا وأنت الغمام!

ومر لا يفعل السيف أفعاله، ولا يسير في مهمه إلا عمه ولا جبل إلا طاله: تسايره السواري والغوادي، ولا ينفك الغيث من انسكاب في كل ناد ووادي:
فباشر وجهاً طالما باشر القنا ** وبل ثياباً طالما بلها الدم!

وكان مولانا السلطان من حلب قد أمر جميع عساكره بادرع لا مات حربهم، وحمل آلات طعنهم وضربهم:
فجاز له حتى على الشمس حكمه ** وبان له حتى على البدر ميسم

يمد يديه في المفاضة ضيغم ** وعينيه من تحت التريكة أرقم!

ورحلوا من حلب في يوم الخميس ثاني ذي القعدة جرائد على الأمر المعهود، قد خففوا كل شيء حتى البنود والعمود، فسرنا في جبال نشتهي بها سلوك الأرض، وأودية تهلك الأشواط فيها إذا ملئت الفروج من الركض، نزور دياراً ما نحب مغناها، ولا نعرف أقصاها من أدناها، واستقبلنا الدرب فكان كما قال المتنبي:
رمى الدرب بالخيل العتاق إلى العدا ** وما علموا أن السهام خيول

شوائل تشوال العقارب بالقنا ** لها مرح من تحته وصهيل

فلما تجلى من دلوك وصنجة ** علت كل طود راية ورعيل

على طرق فيها على الطرق رفعة ** وفي ذكرها عند الأنيس خمول!

ومررنا على مدينة دلوك، وهي رسوم سكانها، ضاحكة عن تبسم أزهارها وقهقهة غدرانها، ذات بروج مشيدة، وأركان موطدة، ونيران تزاويق موقدة، في عمد من كنائسها ممددة؛ وسرنا منها إلى مرج الديباج نتعادى، وذلك في ليلة ذات أندية وإن لم تكن من جمادى؛ ظلماتها مدلهمة، وطرقاتها قد أصبح أمرها علينا غمة؛ لا يثبت تربها تحت قدم المار، وكأنما سالكها يمشي على شفا جرف هار؛ فبتنا هنالك ليلة نستحقر بالنسبة إلى شدتها ليلة الملسوع، وتتمنى العين بها هجعة هجوع؛ وأخذنا في اختراق غابات أشجار تخفي الرفيق عن رفيقه، وتشغله عن اقتفاء طريقه، ينبري منها كل غصن يرسله المتقدم إلى وجه رفيقه، كما يخرج السهم بقوة من منجنيقه؛ حولها معاثر أحجار كأنها قبور بعثرت، أو جبال تفطرت، بينها مخائض، لا بل مغائض، كأنها بحار فجرت؛ ما خرجنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجدأول وتعممت بالثلوج، وعميت مسالكها فلا أحد إلا وهو قائل: {فهل إلى خروج من سبيل} أو إلى سبيل من خروج؛ تضيق مناهجها بمشي الواحد، وتلتف شجراتها التفاف الأكمام على الساعد؛ ذات أوعار زلقة، وصدور شرقة، وأودية بالمزدحمين مختنقة؛ بينما يقول منتحيها: قد نلت السماء بسلم من هذه الشواهق، إذا هو متضائل قد هبط في مأزق متضايق؛ لم تزل هذه الجبال تأخذنا وترمينا، وتلك المسارب تضمنا وتلك المشارب تظمينا:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ** ولا تسود بيض العذر واللمم

ونترك الماء لا ينفك من سفر ** ما سار في الغيم منه سار في الأدم!

حتى وصلنا الحدث الحمراء المسماة الآن بكينوك، ومعناها المحرقة، كان الملك قسطنطين والد صاحب سيس قد أخذها من أصحاب الروم وأحرقها، وتملكها وعمرها، بقصد الضرر لبلاد الإسلام والتجار، فلما كان في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة سيرمولانا السلطان إليها عسكر حلب فافتتحها بالسيف وقتل من كان بها من الرجال وسبى الحريم والذرية، وخربت من ذلك الحين، وما بقي بها من يكاد يبين، فشاهدنا ما بنى سيف الدولة بن حمدان منها والقنا تقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم، وقيل حقيقة هناك: على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وهي التي عناها أبو الطيب بقوله:
غصب الدهر والملوك عليها ** فبناها في وجنة الدهر خالا

فهي تمشي مشي العروس اختيالا ** وتثنى على الزمان دلالا!

فبتنا بها وانثنينا وخيلنا مبثوثة فوق الأحيدب كما نثرت الدراهم فوق العروس، وحوافرها على الوكور في أعلى القنن تدوس؛ إذا زلقت تمشي على صلد الصفا كالأراقم على البطون، وأن تكاسلت جر بعضها بعضاً بالصهيل: والحديث شجون؛ وخضنا في أثناء ذلك مخائض سوافح كأنها لأجل عوم الخيل بها سمي كل منها لأجل ذلك سابح؛ كلما قلنا: هذا بحر قد قطعناه اعترض لنا جبل، وكلما قلنا: هذا جبل طلعناه بان لنا واد يستهان دون الهوي فيه نفاد الأجل؛ لم نزل كذلك حتى وصلنا كوكصوا وهو البهر الأزرق، وهو الذي رد الملك الكامل منه سنة الدر بندات لما قصد التوجه إلى الروم، وهذا النهر بين جبال هو مهوى رجامها، ومثوى غمامها، وملوى زمامها، ومأوى قتامها، فللوقت عبرناه ركضاً، وأعجلت الخيل فما درت هل خاضت لجة أم قطعت أرضاً؛ وسارت العساكر متسللة في تلك الجبال الشم ووقع السنابك يسمع من تلك الجبال الصم؛ حتى وصلوا إلى أقجا دربند فما ثبتت يد فرس لمصافحة صفاها، ولا نعله لمكافحة رحاها، ولا رجله لمطارحة قواها؛ وتمرنت الخيل على الاقتحام والازدحام في التطرق، وتعودت ما تعودته الأوعال من التسرب والتسلق، فصارت تنحط انحطاط الهيدب، وترتفع ارتفاع الكوكب، وتسري سريان الخيال، وتمكن حوافرها الجياد فتزول منها الجبال؛ حتى حصل الخروج من منتهى أقجا دربند، وهو خناق ذلك المأزق الذي كم أمسك على طارق، وفم ذلك الدرب الذي كم عضت أنيابه على مساوق ومسابق، وذلك في يوم الأربعاء ثامن ذي القعدة، وبات السلطان والناس في وطأة هناك، وسمحت السحب بما شاءت من برد وبرد، وجاءت الرياح بما آلامت الجلد واستنفدت الجلد؛ وانتشرت العساكر في وطأة هناك حتى ملأت المفاوز، وملكت الطرق على المار وأخذتها على الجائز، وقدم مولانا السلطان الأمير شمس الدين سنقراً الأشقر في الجاليش في جماعة من العساكر، فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التتار مقدمهم كراي، فانهزموا من بين يديه وأخذ منهم من قدم للسيف السلطاني فأكل نهمته وأسأر، واستمرت تلك سنة فيمن يأخذ من التتار ويؤسر؛ وذلك في يوم الخميس تاسع ذي العقدة.
وبات التتار على أجمل ترتيب لأنفسهم وأجمل منظر، وبات المسلمون على أتم تيقظ وأعظم حذر، ولم يتحققوا قدوم مولانا السلطان في جيوش الإسلام، ولا أنه حضر بنفسه النفيسة ليقوم في نصرة دين الله ذها المقام. فلما كان يوم الجمعة عاشر ذي القعدة تتابع الخبر بعد الخبر بأن القوم قد قربوا، وأنهم ثأبوا ووثبوا:
وقد تمنوا غداة الدرب في لجب ** أن يبصروه فلما أبصروه عموا!

وشرع مولانا السلطان فوصى جنوده بالتثبت عند المصدمة، والاجتماع عند المصادمة ورتب جيش الإسلام اللجب، على ما يجب، وأراهم من نور رأيه ما لا على بصر ولا بصيرة يحتجب، فطلعت العساكر مشرفة على صخرات هوني من بلد أبلستين وكان العدو ليلته تلك بائتاً على نهر زمان، وه أصل نهر جهان، وهو نهر جيحان المذكور في الحديث النبوي، وإنما الأرمن لا تنطق بالهاء.
فلما أقبل الناس من علو الجبل شاهدوا المغل قد ترتبوا أحد عشر طلباً كل طلب يزيد على ألف فارس حقيقة، وعزلوا عسكر الروم عنهم خيفة منهم، وجعلوا عسكر الكرج طلباً واحداً بمفرده، ولما شاهدوا سناجق مولانا السلطان المنصورة ومن حولها من المماليك الظاهرية، وعليهم الخود الصفر المقترحة، وكأنها في شعاع الشمس نيران مقتدحة، رجعوا إلى ما كانوا عقدوا من العزائم فحلوا، وسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وعلى الموت يتراسلون؛ فانصبت الخيل إليهم من أعلى الجبل انصباب السيل، وبطلت الحيلة منهم ونفي الحيل؛ فشمروا عن السواعد، ووقفوا وقفة رجل واحد؛ وهؤلاء المغل كان طاغية التتار آبغا- أهلكه الله- قد اختارهم من كل ألف مائة، ومن كل مائة عشرة، ومن كل عشرة واحداً لأجل هذا اليوم، وعرفهم بسيما الشجاعة وعرضهم لهذا السوم؛ وكان فيهم من المقدمين الكبار تدلون؛ ومعنى هذا الاسم النفاذ يعني أنه ما كان في عسكر قط إلا نفذة، والمقدم الآخر يفوا وإليه أمر بلاد الروم وعساكر المغل بها، وأرختوا أخو تدلون، وبهادر بخشى، ومن مقدمي الألوف دنرك، وصهر آبغا، وقرالق وخواصه:
بيض العوارض طعانون من لحقوا ** من الفوارس شلالون للنعم؟

قد بلغوا بثناهم فوق طاقته ** وليس يبلغ ما فيهم من الهمم

في الجاهلية إلا أن أنفسهم ** من طيبهن به في الأشهر الحرم

فعندما شاهدوا نجد الملائكة، وتحققوا أن نفوسهم هالكة، أخلدت فرقة منهم إلى الأرض فقالت، وعاجت المنايا على نفوسهم وعاجلت، وباعت نفوس المسلمين لهموتاجرت، وكسرتوما كسرت، وجاء الموت للعدو من كل مكان، وأصبح ما هناك منهم وقد هان؛ وللوقت خذلوا وجدلوا، ولبطون السباع وحزاصل الطيور حصلوا، وصاروا مع عدم ذكر الله بأفواههم وقلوبهم، يقاتلون قياماً وقعدوا وعلى جنوبهم، فكم من شجاع ألصق ظهره إلى ظهر صاحبه وحامى، وناضل ورامى، وكم فيهم من شهم، وما سلم قوسه حتى لم يبق في كنانته سهم، وذي سن طارح به فما طرحه حتى يثلم، وذي سيف حادثه بالصقال فما جلى محادثة حتى تكلم؛ وأبانوا عن نفوس في الحرب أبية، وقلوب كافرة نخوة عربية، واشتدت فرقة من العدو من جهة الميسرة معرجين على السناجق الشريفة من خلفها، منقلبين بصفوفهم على صفها:
فلزهم الطراد إلى قتال ** أحد سلاحهم فيع الفرار!

فثاب مولانا إليهم، ووثب عليهم، فضحى كل منهم بكل أشمط وأفرى الأجساد فأفرط؛ ولحق مولانا السلطان منهم من قصد التحصين بالجبال فأخذهم الأخذة الرابية، وقتلهم فهل ترى لهم من باقية:
وما الفرار إلى الأجبال من أسد ** تمشي النعامبه في معقل الوعل؟

وانهزمت جماعة يسيرة طمع فيها من العوام من كان لا يدفع عن نفسه، وأخذتهم المهاوي فما نجا منهم إلا آيس من حياة غده في أمسه.
مضوا متسابقي الأعضاء فيه ** لأرؤسهم بأرجلهم عثار

إذا فاتوا الرماح تنأولهم ** بأرمح من العطش القفار!

وقصدت ميمنة عسكرنا جماعة من المغل ذوو بأس شديد، فقاتلهم المسلمون حتى ضجر الحديد؛ وكان مولانا الصاحب زين الدين- حرس الله جلاله- لما دعيت نزال أول مسابق، وأسرع راشق، وأقرب مطاعن، وأعظم معاون؛ فذكر من شاهده أنه أحسن في معركته، وأجمل في كرته، وأجاد في طعنته، وزأر زئير الليث، وسابق حتى لم يبق حيث، ووقف دريئة للرماحمن عن يمينه وشماله، وخضب بما تحدر من دم عدوه أكناف سرجه وعنان لجامه، وكانت غليهمن الله باقية واقية في تقدمه وإقدامه، وشاهدناه وقد خرج من وسط المعركة وهو شاكي السلاح، وقد أخذ نصيبه ونصيب فرسه من سالم الجراح؛ وأراد الله أن لا يخليه من إسالة دم يعظم الله الأجر بسائله- فجعله- والمنة لله- من بعض أطراف أنامله.
ولقد ذكر الأمير عز الدين أيدمر الدوادار الظاهري، قال: لقيتني وقد تكسر رمحي، وعاد- لولا لطف الله- إلى الخسارة ربحي، فأعطاني المولى الصاحب زين الدين رمحه فإذا فيه نصول، وبسنة من قراع الدار عين فلول؛ ورأيت دبوس المولى الصاحب زين الدين وقد تلثم، وكان الخوف عليه في ذلك اليوم شديداً ولكن الله سلم؛ ولقد بلغ مولانا السلطان خبره فسأله فما أجابه بغير أن قال: سيف مولانا السلطان هو الذي سفك، وعزمه هو الذي فتك.
ومن يك محفوظاً من الله فلتكن ** سلامته ممن يحاذر هكذا

ويخرج من بين الصفوف مسلماً ** ولا من بيديه ولا ناله اذى!!

وأما العدو فتقاسمت الأيدي ما يمتطونه من الصواهل والصوافن، وما يصولون به من سيوف وقسي وكنائن، وما يلبسونه من خود ودروع وجواشن، وما يتمولونه من جميع أصناف المعادن؛ فغنم ما هنالك، وتسلم من استشهد من المسلمين رضوان وتسلم من قتل من الكفار مالك.
وكان الذين استشهدوا في هذه الموقعة من المقدمين: شرف الدين قيران العلائي أحد مقدمي الحلقة وعز الدين أخو الأمير جمال الدين المحمدي، ومن المماليك السلطانية: شرف الدين فلحق الجاشنكير الظاهري، وأبيك الشفيقي الذي كان وزير الشقيف. وكان المجرحون عدة لطيفة لم يعلم عددها لقلتها، بل لخفتها؛ وأورث الله المسلمين منازلهم فنزلوها، ووطاقاتهم وخركاواتهم فتملوها، وكان مولانا السلطان وكان أعداؤه كما قيل:
فمساهم وبسطهم حرير ** وصحبتهم وبسطهم تراب!!

وأصبح الأعداء لا ترى إلا أشلاؤهم، ولا تبصر إلا أعياؤهم؛ كأنما جزر أجسادهم جزائر يتخللها من الدماء السيل، وكأنما رؤوسهم المجموعة لدى الدهليز المنصور أكر تلعب بها صوالجة من الأيدي والأرجل من الخيل:
ألقت إلينا دماء المغل طاعتها ** فلو دعونا بلا حرب أجاب دم!

فكم شاهد مولانا السلطان منهم مهيب الهامة، حسن الوسامة، تتفرس في جهامة وجهه الفخامة، قد فض الرمح فاه فقرع السن على الحقيقة ندامة:
ووجوهاً أخافها منك وجه ** تركت حسنها له والجمالا!

أو كما قيل:
لا رحم الله أرؤساً لهم ** أطرن عن هامهن أقحافاً!

وأقبل بعض الأحياء من الأسارى على الأموات يتعارفون، ولأخبار شجاعتهم يتواصفون؛ فكم من قائل: هذا فلان وهذا فلان، وهذا كان وهذا كان؛ وهذا كان يحدث نفسه بأنه يهزم الألوف، وهذا يقرر في ذهنه أنه لا تقف بين يدي الصفوف؛ وكثرت الأسارى من المغل فاختار السلطان من كبرائهم البعض، وعمل فيهم بقول الله عز وجل: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض}. فجعلهم للسيوف طعمة، وأحضرت الأسارى من الروم فترقب مولانا السلطان فيهم الإل والذمة:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ** ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا!

وكان في جملة الأسارى الروميين مهذب الدين بكلارنكي، يعني أمير الأمراء ولد البرواناه، ونور الدين جاجا أكبر الأمراء، وجماعة كثيرة من أمراء الروم ومقدمي عساكره، فكان البرواناه أحق بقول ابي الطيب:
نجوت بإحدى مقلتيك جريحة ** وخلفت إحدى مهجتيك تسيل!

أتسلم للخطية ابنك هارباً ** ويسكن في الدنيا إليك خليل؟

لأنه شمر الذيل، وامتطى- هربا- أشهب الصبح وأحمر الشفق وأصفر الأصيل وأدهم الليل؛ وثم يخبر من خلفه بما تم، وهم قلبه رفيقه حين هم:
فنحن في جذل الروم في وجل ** والبر في شغل والبحر في خجل

ودخل البرواناه مدينة قيصرية في تاريخ يوم الأحد ثاني عشر الشهر المذكور، فأفهم غياث الدين سلطانها، والصاحب فخر الدين، وزيرها، والأتابك مجد الدين، والأمير جلال الدين المستوفي، والأمير بدر الدين ميكائيل النائب، والأمير فلان الدين الطغرائي، وهو ولد عز الدين أخي البرواناه، وهو الذي طرر المناشير- أن المسلمين أسروا بعض المغل وبقيتهم منهزمون، ويخشى منهم دخول قيصرية وإتلاف ما يكون بها في طرائقهم حنقاً على الإسلام؛ فأخذهم جرائد، وأخذ زوجته كرجي خاتون بنت غياث الدين صاحب أرزن الروم، فاستصحبت معها أربعمائة جارية لها، وكان لها مالا كان لصاحب الروم من البخاتي والخيام والآلات، وتوجهوا كلهم إلى خربة توقات، وهو مكان حصين مسيرة أربعة أيام من قيصرية، ولما خرجوا من قيصرية حملهم على سرعة الهرب، وأنذرهم عذاباً قد اقترب، وهول على بقية أمراء الروم فاتبعوه إلا قليلاً منهم، وأخفى البرواناه أمره وأمر من معه حتى ولا مخبر يخبر عنهم.
وكان مولانا السلطان قد جرد الأمير شمس الدين سنقراً الأشقر في عدد مستظهراً به لإدراك من فات من المغل والتوجه لقيسارية، وأمن أهلها، فمروا طريقهم بفرقة من التتار معها بيوتهم فأخذ منها جانباً، ودخل عليهم الليل فمر كل في سربه ذاهلاً ذاهباً. ورحل مولانا السلطان في بكرة السبت حادي عشر ذي العقدة من مكان المعركة، فنزل قريب القرية المعروفة بريان، وهذه القرية قريب الكهف والرقيم حقيقة، لا ما يقال: إنه قريب حسبان من بلاد البلقاء، وقريباً منه صلد من الصفا عليه كتابة بالرومية أو غيرها من الخط القديم، وأما القرية المذكورة المسماة بريان فإن بيوتها بنيت سن جبل قائم كالهرم إلا أنه ملموم، وعمرت البيوت في سفحه حوله بيتاً فوق بيت فبدت كأنها مجرة النجوم، وما من بيت منها إلا وبه مقاعد ذوات درابزينات منجورة، ورواشن قد بدت في أجمل صورة، يختمها من أعلاها أحسن بنيان، ويعلوها من رأسها منزل مسنم الرأس كما يعلو الصعد السنان، وتطوف بهذه القرية جبال كأنها أسوار بل سوار، كأنها في وسطها إناء فيه جذوة نار؛ ويتفرع منها أنهار، هي في تلك الأودية كأنها بهبوطها كثيب قد انهار؛ ذوات قناطر لا تسع غير راكب، ومضايق لا يلفى غبرها لناكب؛ قدر الله أن العساكر خلصت منها ولكن بعد مقاساة الجهد، وخرجت وقد رق لها قلب كل وهد؛ ونزلنا قريباً منها حتى تخلص من تخلص، وحضر من كان في المضايق قد تربص، وقال: كل الأرض حصحص.
ورحلنا من هناك في يوم الأحد ثاني عشر شهر ذي القعدة وكانت السماء قد حيت الأرض بتيجان أمطارها، وأغرقت الهوام في أحجارها، والفتخ في أوكارها، وأصبحت الأرض لا تتماسك حتى ولا لمرور الأراقم، والجبال لا تتماسك أن تكون للعصم عواصم؛ تضع بها من الدواب كل ذات حمل، وتزلق في صقليها أرجل النمل؛ وسرنا على هذه الحالة نهارنا كله إلى قريب الغروب، وقطعناه بتسلمنا أيدي الدروب من أيدي الدؤوب، ونزلنا عشاء في منتقع أرض تطوف بها جبال شاهقة، ومياه دافقة، تعرف قاعة تلك الأرض بوطأة قشلا وسار من أعمال أصاروس العتيق؛ ويقرب من تلك الجهة معدن الفضة.
وبينما نحن قد شرعنا في أهبة المبيت، ولم نقض الشمل الشتيت؛ إذا بالصادح قد صدح، والنذير قد سنح، رافعاً عقيرته بأن فوجاً من التتار في فجوة هنالك قد استتروا، وفي نجوة لغرة قد انتظروا؛ فركب مولانا السلطان وركب الناس في السلاح، وعزموا على المطار فعاقهم تتابع الغيث وكيف يطير مبلول الجناح؟؛ ثم لطف الله وعاد مولانا السلطان وهو يقول للناس: لا بأس؛ فنمنا نومة السليم، وصدرت أفكارنا شاغرة فيكل واد تهيم، وأصبحنا فسلكنا جبالاً لا يحيط بها الوصف، وتنبسط عذراء الطرف فيها حين يكبو فيها الطرف؛ ننحط منها إلى جنادل، يضعف عن الهوي إليها قوي الأجادل؛ بينا نقول: قد أحسن الله لها نفاداً؛ ومنها نفاذاً؛ وإذا بعد الأدوية أدوية وبعد الجبال جبال نشكر عند ذاك هذه وذاك عند هذا؛ ومررنا على قرية أتراك، وتحتها قناطروخان من حجر منحوت، ثم خان آخرللسبيل على رأس رابية هناك تعرف باشيبدي، قريباً من حصن سمندوا، التي عرض بها أبو الطيب في قوله:
فإن يقدم فقد زرنا سمندو ** وإن يحجم فموعده الخليج!

وكان مولانا السلطان قد سير إليها خواصه بكتاب إلى نائبها فقبله وقبله، وأذعن لتسليم حصنها المنيع وللنزول لأمر السلطان عنها إن استنزله؛ فشكر مولانا السلطان له تلك الإجابة، ووفاه من الشكر حسابه. وكذلك والي قلعة دوندا ووالي دوالوا، فكلهم أجابوا وأطاعوا ولكلمة الإذعان قالوا؛ ونزلنا في وطأة قريب قرية تعرف بحمرها، وكان الناس قد فرغت علوفات خيلهم أو كادت، والخيل قد باتت ليالي بلا عليق فما استفادت، وشاركتها خيول الكسوب(؟) في عليقها، وما ساعدتها في طروقها ولا في طريقها، فضعفت عن حمل نفوسها فما ظنك براكبيها؛ وكاد الفارط- لولا لطف الله عز وجل- أن يفرط فيها؛ فصادفنا في هذه الليلة بعض أتبان أمسكت أرماقها، وأحسنت إرفادها وإردافها.
وأصبحنا في يوم الثلاثاء رابع عشر ذي القعدة راحلين في جبال كأنها تلك الأول، وهابطين في أودية يتمنى سالكها من شدة مضايقها أن لو عاد إلى ترقي أعلى جبل؛ وما زلنا كذلك حتى أشرفنا على خان هناك يعرف بقرطاي يدل على شرف همة بانيه، وطلب ثواب الله فيه؛ وذلك أنه من أكبر الأبنية سعة وارتفاعاً، وأحسنها شكلاً وأوضاعاً؛ كله مبني بالحجر المنحوت المصقول الأحمر الذي كأنه رخام، ومن ظاهر أسواره وأركانه نقوش لا يتمكن أن يرسم مثلها بالأقلام؛ وله خارج بابه مثل الربض ببابين بأسوار حصينة، مبلط الأرض، فيه حوانيت. وأبواب الخان حديد من أحسن ما يمكن استعماله، وداخله أواوين صيفية، وأمكنة شتوية، وإصطلاب على هذه الصورة لا يحسن الإنسان أن يعبر عنها بكيف، وما منها إلا ما يجده الإنسان رحلة للشتاء والصيف؛ وفيه الحمام والبيمارستان والأدوية والفرش والأواني والضيافة لكل طارق على قدره، حمل امولانا السلطان من ضيافته لما مر عليه، وكثر الناس فما وصل أحد إليها ولا إليه؛ وعليه أوقاف عظيمة، وضياع كثيرة حوله وفي غيره من البلاد، وله دواوين وكتاب ومباشرون يتولون استخراج أمواله والإنفاق فيه؛ ولم يتعرض التتار إلى إبطال شيء من رسومه، وأبقوه على عوائد تكريمه؛ وأهل الروم يبالغون في تبجيل بانيه- رحمه الله- وتعظيمه؛ ونزلنا تلك الليلة قريب قرية تقرب من قيصرية من حقوق وادي صلعومة شرقي الجبل المعروف بعسيب، فيه قبر امرئ القيس الشاعر، وهو الذي يقول فيه:
أجارتنا إن الخطوب تنوب ** وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنا غريبان ها هنا ** وكل غريب للغريب نسيب!!

وهذا الجبل يعلوه جبل أرجاس، وهو الذي يضرب الروم الأمثال بتساميه، وتتضاءل الجبال في جميع الدنيا لتعاليه؛ لا يسحب ذيول السحائب إلا دون سفحه، ولا يعرف من ثلوجه شتاءً وصيفاً ومن مثال الأبخرة المتصعدة منه عشاؤه من صبحه.
ولما كان يوم الأربعاء منتصف ذي القعدة، وهو يوم شرف الزهرة ركبت العساكر المنصورة مترتبة، وملأت الفضاء متسربة؛ وركب مولانا السلطان في زمرته، وذوي أمره وإمرته، يختال جواده في أفسح ميدان، ويصيح به فرحاً ومرحاً كأنه نشوان درى أنه سلطان:
تظل ملوك الأرض خاشعة له ** تفارقه هلكى وتلقاه سجدا

وخرج أهل قيصرية وأكابرها، وعلماؤها وزهادها وتجارها، ورعاياها ونساؤها وصغارها، فأكرم مولانا السلطان ممشاهم، وشكر مسعاهم، وتلقى قضاتهم وعلماءهم ركباناً، وحادثهم إنساناً فإنساناً؛ وحصلت لحماعة من الفقراء والناس حالات وجد مطربة، وصدحات ذكر معجبة. وكان دهليز السلطان غياث الدين صاحب الروم وخيامه وشعار سلطنة الروم قد بني جميع ذلك في وطأة قريب الجوسق والبستان المعروف بكيخسرو، وترجل الناس على اختلاف طبقاتهم في الركاب الشريف من ملك وأمة ومأمور وأمير، وارتفعت الأصوات بالتهليل والتكبير:
رجا الروم من ترجى النوافل كلها ** لديه ولا ترجى لديه الطوائل!

ونزل مولانا السلطان في تلك المضارب المعدة لكرم الوفادة، وضربت نوبة سلجوق على باب دهليزه على العادة؛ وأذن مولانا السلطان في التقرب إلى شريف فسطاطة، وشملهم بنظرة واحتياطه؛ وحضر أصحاب الملاهي، فما ظفروا بغير النواهي، وقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا، واذهبوا إلى واد غير هذا الوادي فاقتبسوا؛ فهذه الهناة لا تنفق هنا، وما هذا موضع الغناء بل هذا موضع الغنى؛ وشرع مولانا السلطان في إنفاق اللهى، وعين لكل جهة شخصاً وقال: أنت لها؛ وحكم وحكم، وعلم وعلم؛ واعتمد على الأمير سيف الدين جاليش في النيابة، وأعطى كلا بيمنه كتابه، وكتب إلى أولاد قرمان، أمراء التركمان، وهم ألوف، وما فيهم للتتار ألوف، وأكد عليهم في الحضور، وأقام الحجة على من النتزح بالاستعطاف، وتأمين من خاف، فما خرج كبيرهم عن المخاتلة، ولا زعيمهم عن المطأولة؛ فلما علم مولانا السلطان أنهم لا يفلحون، ولغير التتار لا يصلحون، عاد عن تلك الوعود، واختارأن ما بدأ إليه يعود، وأن يبعث نفسه إلى ما بعثه الله إليه من المقام المحمود، فركب يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة مستقبلاً من الله كل الخير، ونصب جتر بني سلجوق على رأسه فشاهدالناس منه صاحب القبة والسبع وصاحب القبة والطير؛ ودخل قيصرية في بكرة هذا اليوم وكانت دار السلطنة قد فرشت لنزوله، وتخت بني سلجوق وقد هيئ لحلوله؛ وهي دار تزهو، ومنازل من يتعبد أو منازه من يلهو، أنيقة المبتنى، تحف بها بساتين عذبة الجنى؛ جدارنها بأحسن أصناف القاشاني مصفحة، وبأجمل نقوشه مصرحة؛ فجلس مولانا السلطان في مرتبة الملك في أسعد وقت، ونال التخت بحلوله أسعد البخت:
وما كان هذا التخت من حين نصبه ** لغير المليك الظاهر الندب يصلح

مليك على اسم الله ما فتحت له ** صوارمه البيض المواضي وتفتح

أتته وفود الروم والكل قائل ** رأيناك تعفو عن كثير وتصفح

فأوسعهم حلماً وجاد لهم ندى ** وأمسوا على من وأمن وأصبحوا

ولو أنهم لم يجنحوا لمنكب ** عن الحق والنهج القويم لأفلحوا

ولكنهم أعطوا يداً فوقها يد ** تصافح كفا زندها النار يقدح

وأقبل الناس على مولانا السلطان يهنؤونه، وعلى كفه الشريف يقبلونه؛ وبعد ذلك حضرت القضاة والفقهاء والعلماء والصوفية وذوو الواتب من أصحاب العمائم على عادة بني سلجوق في كل جمعة، ووقف أمير المحفل وهو كبير المقدار عندهم، له وسامة وفخامة، وله أكبر كم وأوسع عمامة، وأخذ في ترتيب المحفل على قدر الأقدار، وانتصب قائماً بين يدي مولانا السلطان منتظراً ما إليه به يشار؛ وشرع القراء يقرأون جميعاً وفرادى بأحسن تلحين، وأجمل تحسين، فأنت أصواتهم بكل عجيب، وعدلوا عن الترتيل إلى الترتيب. ولما فرغوا شرع أمير المحفل صارخاً، وبكور فمه نافخاً، فأنشد وأورد بالفارسية ما يعجب مدلوله، ويهول مقوله؛ وأطال وما أطاب، واستصوب من يعرف مقاله قوله، والله أعلم بالصواب.
ولما انقض ذلك مد سماط ليس يناسب همم الملوك، فأكل الناس منه للشرف لا للسرف، ثم عاد كل منهم إلى مقامه فوقف؛ وقام مولانا السلطان إلى مكان الاستراحة فأقام ساعة أو ساعتين، ثم خرج إلى مخيمه قرير العين؛ وكان بدار الملك حرم السلجوقية قد أصبحوا لا ترى إلا مسكنتهم ومساكنهم، قد نبت بهم مواطئهم ومواطنهم؛ على أبوابهم أسمال ستور من حرير، ومشايخ خدام يستحق كل منهم- لكبر سنة- أن يدعى بالكبير؛ عليهم ذلة الانكسار، وأماير الأفتقار، فخبرهم مولانا السلطان وآنسهم، وأحسن إليهم؛ وتوجه من توجه إلى صلاة الجمعة في قيصيرية وبها سبع جمع تقام، وبها خطباء إن هم إلا كالأنعام؛ فصلينا في جامع السلطان وهو جامع علي يدل على احتفال ملوكها ببيوت عبادتهم، ورأينا فيه من دلائل الخير ما يقضي بحسن إرادتهم؛ فحضر أهل المدينة وأكابرها، وجلسوا حلقاً لا صفوفاً، وأجروا من البحث بالعجمية صنوفاً، واجتمعت جماعة من حفظة الكتاب العزيز فتخارجوا القراءة آية آية، وهي قراءة بعيدة عن الدراية؛ بل إنها تبرزها أصوات مترنمة، وألحان لتفريق الكلمات مقسمة، ينطوق بالحروف كيف اتفقت، ولا يتوقفون على مخارج الحروف أنها بها نطقت أو لا نطقت.
فلما آن وقت الأذان قام صبي عليه قباء من وسط جماعة عليهم أقبية قعود على دكة المؤذنين، فابتدأ بالتكبير أولاً وثانياً بمفرده من غير إعانة ولا إبانة. ولما تشهد ساعدوه جميعهم بأصوات محمحمة ملعلعة، ونغمات متنوعة، يمسكون له النغم بأحسن تلحين، ويترنمون بالأصوات إلى آخر التأذين؛ وفرغ الأذان وكلهم قعود ما منهم أحد غير الصبي وقف، وما منا أحد لكلمة من الأذان عرف؛ ولما فرغ الأذان طلع شيخ كبير السن يعرف بأمير محفل المنبر، وشرع في دعاء لا نعرفه، وادعاء لا نألفه: كأنه مخاصم، أو وكيل شرع أحضره لمشادة خصمه محاكم بين يدي حاكم؛ وطلع الخطيب بعد ذلك فخطب ودعا لمولانا السلطان بغير مشاركة، ودعا الناس بما تلقته من الأفواه الملائكة؛ وانقضت الجمعة على هذه الصورة المسطورة؛ وضربت السكة باسم مولانا السلطان، وأحضرت الدراهم إليه في هذا اليوم، فشاهدها فرأى أوجهها باسمة باسمه الميمون، وأقرت الألسنة بهذه النعمة وقرت العيون؛ وشاهدت بقيسارية مدارس وخوانق وربطاً تدل على اهتمام بانيها، ورغبتهم في العلوم الدينية والشرعية، مشيدة بأحسن الحجار الحمر المصقولة المنقوشة، وأراضيها بأجمل تلك مفروشة، وأوانيها وصففها مؤزرة بالقاشاني الأجمل صورة، وجميعها مفروشة بالبسط الكرجية والعالية، وفيها المياه الجارية، ولها الشبابيك على البساتين الحسنة، وسوق قيصرية طائف بها من حولها، وليس داخل المدينة دكان ولا سوق.
والوزير في بلاد الروم جميعها يعرف بالصاحب فخر الدين خواجا علي ولا يحسن الكتابة ولا الخط، وخلعته من مماليكه خاصة مائتا مملوك، ودخله في كل يوم- غير دخل أولاده وغير الإقطاعات التي له ولأولده وخواصه- سبعة آلاف درهم سلطانية. ولقد شاهدت في مدرسته من خيامه وخركاواته شيئاً لا يكون لأكبر الملوك، وله بر ومعروف، وهو بالخير موصوف:
والمسمون بالوزير كثير ** والوزير الذي لنا المأمول!

وعلي هذا وذاك علي ** وعلي هذا له التفضيل!

الذي زلت عنه شرقاً وغرباً ** ونداه مقابلي لا يزول!

ومعي أينما سلكت كأني ** كل وجه له بوجهي كفيل!

وأما معين الدين سليمان البرواناه وزوجته كرجي خاتون، فظهر لهما من الموجود البادل العيون كل نفيس، وبحمد الله استولى مولانا السلطان ومماليكه من موجوده ودار زوجته المذكورة على ملك سليمان وصرح بلقيس.
سولما أقام مولانا السلطان بقيصرية هذه المدة، فكر في أمر عساكره ومصالحه بما لا يعرفه سواه، ونظر في حالهم بما أراه الله، وذلك لأن الأقوات قلت، وقيسارية ألقت ما فيها من المؤن وتخلت والسيوف من المصارعة ملت، والسواعد من المصادمة كلت، وأنه ما بقي في الروم من الكفار من يغزى، ولا بجزاء السوء يجزى؛ ولا بقي في البلاد غير رعايا كالسوائم الهاملة، ولا دية- للكفر منهم على عاقل وعاقلة؛ وأنه أقام فالبلاد لا تحمله، ومواد بلاده لا تصله، وأعشاب الروم بالدوس قد اضمحلت، وعلوفاتها قد قلت، وزروعها لا ترتجى لكفاية، ولا ترضى خيول العساكر المنصورة بما ترضى به خيول الروم من الرعي والرعاية، وأن الحسام الصقيل الذي قتل التتار به في يد القاتل، وأنهم إن كان أعجبهم عامهم قيعودون إلى الروم فب قابل.
ورحل في يوم الاثنين عشرين من ذي القعدة بعد أن أعطى أمراءه وخواصه كل ما أحضر إليه من الأعنة والأزمة، وكل ما يطلق على تولية اسم النعمة؛ فنزل بمنزلة تعرف بعترلوا؛ وفي هذه المنزلة ورد إلى السلطان رسول من جهة غياث الدين سلطان الروم، ومن جهة البرواناه والكبراء الذين معه يسمى الدين الترجمان- وفي الحيقيقة هو من عند البرواناه- يستوقف مولانا السلطان عن الحركة وما علموا إلى أين، بل كان الأمر شائعاً بين الناس أن الحركة إلى جهة سيواس؛ فعدد مولانا السلطان عليه حسن وفائه بعهده، وأنهم ما وقفوا عند الشروط المقررة، ولا وفوا بمضون الرسائل المسيرة، وأنهم لما جاء الحق وزهق الباطل طلبوا نطرة إلى ميسرة، وأن أعنتهم للكفر مسلمة، وأنهم منذ استيلاء التتار على الروم هم أصحاب المشامة؛ وعلم مولانا السلطان أن بلاد الروم ما بها عسكر يستخلصه لنفسه، ولا من يقابل المغل في غدة خوفاً مما شاهده كل منهم في أمسه، وأنهم أهل طيبة عيش، لا قواد جيش؛ فرد السلطان إلى سليمان البرواناه مد يده، وقال: قل له: إنني قد عرفت الروم وطرقاتها، وأخذت أمه أسيرة وابن بنته وولده، ويكفينا ما جرى من النصر الوجيز، {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} وما كل من قضى فريضة الحج يجب عليه المجاورة، ولا بعد هذه المناصرة مناصرة، ولا بعد هذه المحاورة محاورة، ونحن فقد ابتغينا فيما آتانا الله: من حقن دماء أهل الروم وعدم نهب أموالهم الدار الآخرة، وتنزهنا عن أموال كنتم للتتار تستحبونها، ومغارم كثيرة هي لهم من الجنات مغانم يأخذونها حين يأخذونها؛ وما كان جلوسنا في تخت سلطنتكم لزيادة بتخت آل سلجوق، بل لنعلمكم أنه لا عائق لنا عن أمر من الأمور يعوق؛ وإن أحداً لا ينبغي له أن يأمن لنا سطوة، وليتحقق كل أن كل مسافة جمعة لنا خطوة، وسروجنا- بحمد الله- أعطم من ذلك التخت جلالاً، وأرفع منالاً، وكم في ممالكنا كراسي ملك نحن آية ذلك الكرسي، وكم لنا فتح كله- والحمد لله- في الإنافة الفتح القدسي.
من كان فوق محل الشمس موضعه ** فليس يرفعه شيء ولا يضع!

واستصحب السلطان معه تحت الرضا والعفو من أكابر الروميين- الأمير سيف الدين جاليش النائب بالروم، وهو رجل شيخ نبيه له اشتغال بعلم؛ وكان له في الروم صورة، وهو أمير داريعني أمير المظالم. واستصحب ظهير الدين متوج مشرف الممالك، ومرتبته دون الوزارة وفيه فضل، ونسخ كثيراً من العلوم بخطه، مثل الصحاح في مجلد واحد، وغير ذلك. واستصحب الأمير نظام الدين أوحد بت شرف الدين بن الخطير، وأخوته وجماعته وجماعة والده، وأولاد عمه ضياء الدين بن الخطير المستشهد رحمه الله.
واستصحب من الأمراء: الأمير مظفر الدين محاف؟ والأمير سيف الدين كجكيه الجاشنكير، والأمير نور الدين المنجنيقي، وأصحاب ملطية أولاد رشيد الدين أمير عارض، وهم: كمال الدين وأخوته، وأمير علي صاحب كركر.
واستصحب قاضي القضاة بملطية، وهو القاضي حسام الدين ابن قاضي العسكر، ووالده الذي كان يترسل عن السلطان علاء الدين إلى الملوك، وهو رجل عالم فاضل. وأكثر هؤلاء حضروا ببيوتهم ونسائهم وغلمانهم وحفدتهم.
والذين حضروا تحت الغضب- ولد البرواناه المذكور، وولد خواجا يونس، وهو ابن بنت البرواناة ووالدة البرواناه، والأمير نور الدين جاجا، وهو أكبر أمراء الروم أصحاب النعمة والنعم، والأمير قطب الدين أحمد أخو الأتابك، والأمير سيف الدين سنقرجاه الروناشي، والأمير سراج الدين إسماعيل بن جاجا، والأمير نصرة الدين صاحب سيواس، والأمير كمال الدين عارض الجيش، والأمير حسام الدين ركاوك قريب البرواناه، والأمير سيف الدين الجاويش، والأمير سراج الدين أخو حسام الدين، والأمير شهاب الدين غازي بن علي شير التركماني.
ومن المغل: مقدمي الألوف والمئات- زيرك وسرطلق، وحنوكه، وسركده، وتماديه.
ثم رحل السلطان في اليوم الثاني ونزل بمنزلة قريب خان السلطان علاء الدين كيقباذ، ويعرف بكرواني صراي، وهذا الخان بنية عظيمة من نسبة خان قرطاي، وله أوقاف عظيمة. ومن جملة ما وجد قريباً منه أذواد كثيرة من الأغنام عبثت فيها العساكر المنصورة، سألت عنها فقيل: إنها وقف على هذا الخان يذبح نتاجها للواردين على هذا الخان، وهذه الاغنام له من جملة الوقوف، قدر الله استيفادها جملة لما كثرت على هذا الخان من الجيوش المنصورة الضيوف.
ورحلنا في اليوم الثالث وهو يوم الأربعاء ثاني عشرين من الشهر، ونزلنا في وطأة عادة التتار ينزلون بها تسمى روران كودلوا، وكودلوا اسم جبال تلك الوطأة.
ورحلنا في يوم الخميس ثالث عشرين من ذي القعدة، فعارضنا بها- في وطأة خلف حصن سمندو من طريق غير الطريق التي كنا توجهنا منها- نهر يعرف بنهر قزل صو، قريب كودلوا الصغير. ومعنى قزل صو النهر الأحمر؛ وهذا النهر صعب المخاض، واسع الاعتراض، عالي المهبط، زلق المسقط، مرتفع المرتقى، بعيد المستقى، لا يجد السالك من أوحال حافتيه إلا صعيداً زلقاً، فوقف مولانا السلطان بنفسه، وجرد سيفه بيده، وباشر العمل بنفسه هو وجميع خواصه، حتى تهيأ المكان جميعه، ووقف راجلاً يعبر الناس أولاً فأولاً: من كبير وصغير وغلام، وهو في أثناء ذلك يكر على من يزدحم، ويكرر تأديب لمن يطلب بأذية رفيقه ويقتحم؛ وما زال من رابعة هذا النهار إلى الساعة الثامنة حتى عبرت الناس سالمين. ولما خفت البرور، ولم يبق إلا المرور، ركب فرسه وعبر الماء والألسنة له داعية، وعليه من الله واقية باقية، فنزل في واد هناك به مرعى ولا كالسعدان، ومرأى ولا كشعب بوان.
ثم رحل في يوم الجمعة فنزل عند صحرات قراجار حصار، وهي قرية كانت عامرة فيما مضى، قريبة من هدر رجال قبالة بازاربلو، وهذا البازار هو الذي كانت الخلائق تجتمع إليه من أقطار الأرض، ويباع فيه كل شيء يجلب من الأقاليم، ويقرب من كودلوا الكبير.
وسرنا في يوم السبت سوقاً طول النهار، حتى نزلنا في وطأة الأبلستين، وفي هذا النهار عبر مولانا السلطان- نصره الله- على مكان المعركة لمشاهدة أمم التتار، وكيف تعاقبت عليهم من العقبان كواسرها، وكف بأسهم من النسور مناسرها، وكيف أصبحوا لا يندبهم إلا البوم، وتحققوا أن التي أهلكتهم زرق الأسنة لا زرق الروم، فرآهم لمن بقي عبرة، وعرضوا على ربهم صفاً وجاؤوه كما خلقوا أول مرة، وابصر الرياح لأشلائهم متخطفة، والهوام في أجسادهم متصرفة، وشاهدهم وقد هذأهم كل شيء حتى الوحوش والرياح: فهذه من صديدهم متكرعة وهذه عليهم متقصفة.
قد سودت شجر الحبال شعورهم ** فكأن فيه مسفة الغربان!

ولما عاينهم مولانا السلطان وعاينهم الناس أكثروا شكر الله على هذه النعم التي أمست لكافة الكفر كافة وشالة ودارزه، وأثنوا على مننه التي سنت إليهم خيار العساكر المنصورة حتى أصبحت تلك الأرض بهم بارزة، وحضرت من أهل الأبلستين هنالك جماعة من أهل التقى والدين، واستخبرهم مولانا السلطان عن عدة قتلى المغل فقالوا: فاسأل العدين، فاستفهم من كبيرهم عن عدة المغل كم من قتيل، فقال: {قل الله أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل} وقال بعضهم ممن عدهم وممن عنده علم من الكتاب: أنا عددت ستة آلاف وسبعمائة وسبعين نفراً وضاع الحساب؛ هذا: غير من آوى إلى جبل يعصمه من ماء السيوف فما عصمه، وغير من اعتقد أن فسه تسلمه فأسلمه:
فلقد غدوا خلل الرماح كأنما ** غضبت رؤوسهم على الأجسام

أحجار ناس فوق أرض من دم ** ونجوم بيض في سماء قتام

فتركهم مولانا السلطان ومضى والفلوات مزرعة لجسومهم، والدود- لأنهامؤمنة وهم كفار- وقد أثرت كالنواسر في لحومهم، فرسم مولانا السلطان بتقدم الأثقال والحراس والدهليز المنصور صحبة الأمير بدر الدين الخزندار، والدخول في أقجه دربند، وأقام مولانا السلطان في ساقة العسكر المنصور بقية يوم السبت ويوم الأحد:
فهو يوم الطراد أول سابق ** وهو يوم القفول آخر سائق!

وانتظر في هذين اليومين صيداً من العدو يعن، وما من دمائهم إلى السيف يحن؛ فلما لم يجد أحداً رحل في يوم الاثنين فنزل قريباً من الخان الذي في الدربند، وركب يوم الاثنين من طريق غير التي حضر منها، فسلك طريقاً من الأوعار يبسا، وسلك من قلل الجبال في هضاب كأن كل منها ألف حملت من الأنجم قبسا؛ فقاسى العالم في هذا اليوم من الشدة ما لا يدخل في قياس، وكادوا يهلكون لولا أن الله عز وجل تدارك الناس، فتسابقوا ولكن على مثل حد السيف، وتسللوا ولكن سل حوافر الخيل كيف؟ وهبطوا من جبال يستصعبها كل شيء حتى طارق الطيف؛ يستصعب الحجر المحلق من شاهق وقوعه في عقابها، ويستهول النجم الثاقب ترفع شعابها، بالقرب منها جبل شاهق يعرف بسقر وما أدراك ما سقر، لا يبقي على شيء من الدواب ولا يذر، له عقبة لواحة للبشر، أعان الله على الهبوط منها، وفاز بمشيئة الله وبسعادة مولانا السلطان من زحزح عنها؛ وعدينا كوكصوا وهو النهر الأزرق، وبات مولانا السلطان هناك، وكان قضيم البغال تلك الليلة ورق البلوط، إلا من أمست عناية الله أن تيسر في شعير بخمسة عشر درهم كل مد يحوط.
ورحل مولانا السلطان يوم الأربعاء تاسع عشرين من ذي القعدة فنزل قريب كسول(؟) المقدم ذكرها، وعدل إلى طريق مرعش فزال بحمد الله الداعي وقالوا للشعير: ما فينا لك مخاطب ولا منا فيك بماله مخاطر، وللخيول قد حصل لك فيمصر الربيع الأول في شعبان وفي الشام في ذي الحجة الربيع الآخر، فأرتعت لا يروعها أصحاب الموازين في تلك المساجد(؟)؛ وقسم مولانا السلطان تلك الأعشاب كما تقسمت في آفاق السماء النجوم، وأوقف كل أحد في مقام حتى قال: وما منا إلا له مقام معلوم؛ فكم هنالك من مروج أعسبت فأعجبت، وانجابت السماء عنها فأنجبت، وأرت على زهر النجوم فاهتزت وربت:
يصد الشمس أنى واجهتنا ** فيحجبها ويأذن للنسيم

يتخللها هنالك أترع الحياض، ويلهو بها كل شيء فكم قصف العاصي بها في تلك الرياض.
هذا كله: وخير من أرزنجان، حارة برجوان؛ وخير من أراضي توريز، قطعة من إيليز، وكوم من كيمان سفت ميدوم، خير من قصر قيصرية الروم؛ ونظرة إلى المقياس، خير من سيواس؛ ومناظر اللوق، خير من كيقباذ آل سلجوق؛ وتربة من ترب القرافه، خير من مروج العرافة؛ وشبر من شبرا، خير من سطا ومرا:
وجلوس في باب دارك خير ** من جلوس في باب إيوان كسرى

والتماحي لنور وجهك خير ** لي من أنني أشاهد بدرا

يا ولياً يولي الأيادي سراً ** ووزيراً فليس يكسب وزرا

ما رأينا والله فيمن رأينا ** لك مثلاً من البرية طرا

كم خبرنا الرجال في كل أرض ** فإذا أنت أعظم الخلق قدرا؟

كم فلان قالوا وقالوا فلاناً ** فإذا الناس دون علياك حسرى

لك مدح قد طبق الأرض سبحا ** ن إله به إلى الناس أسرى

ما رأينا مصراً كمص ولا مث ** لك فينا والحمد لله شكرا

الضرب الثاني من الرسائل الملوكية: رسائل الصيد:
وهذه نسخة رسالة في صيد السلطان الشهيد الملك الناصر بن السلطان الشهيد الملك المنصور قلاوون من إنشاء القاضي تاج الدين البارنباري؛ وهي: الحمد لله الذي نعم النفوس الشريفة بإدراك الظفر، وأنعم على هذه الأمة بمحمدها الذي أنار كوكب نصره وسفر، وشرع لها على لسان نبيها صلى الله عليه وسلم- الغنيمة في السفر، وأسعف هذه الدولة الشريفة بدوام سلطانها الذي حفت أيامه بالعز والتأييد والظفر.
نحمده على أن أقر العيون بفضله بما أقر، ونشهد أ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ألانت قلب من نفر، وكرمت أسبابها فلا يتمسك بها إلا أعز فريق ونفر، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أعز من آمن وأذل من كفر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تجاوز الله عن ذنوبهم وغفر، وسلم تسليماً.
وبعد، فإن في ابتغاء النصر ملاذاً تدركها كل ذات شرفت، وتملكها السجايا التي تعارفت بالفخار وائتلفت، وتنالها النفوس التي مالت إلى العز وإلى تلقائه صرفت؛ ومنشؤها من حالتين: إما في موقف عز عندما تلمع بروق الصفاح، وتشيب من هول الحرب رؤوس الرماح، وتسرح جوارح النبال لتحل في الجوارح وتصيد في الأرواح؛ وإما في موطن سلم عندما تنبسط النفوس إلى امتطاء صهوات الجياد في الأمن والدعة، وتنشرح الصدور إلى معاطاة الصيود والمسرات مجتمعه، وتطلق البزاة فتصيد، وتتصرف بأمر الملوك الصيد وترسل الحوامي الممسكة، وتلقى علىما سنح من الوحش فلا ترى إلا مدركة؛ وتفاض النعم السلطانية وتجزل مواهبها، وتلوح العصابة الشريفة وتنبعث مواكبها.
وكان الله تعالى قد جمع للمواقف الشريفة، المعظمة، السلطانية، الملكية، الناصرية، خلد الله سلطانها- سعادة الحالتين حرباً وسلماً، وآتاه فيهما النصر الأرفع والعز الأسمى، ووسم بصدقاته وعزماته الأمرين وسما، ونصره نعتاً وعظمه سمعة وشرفه اسما، فأيام حروبه كلها رفعة وانتصار، واستيلاء واستظهار، وقوة تحيا بها المؤمنون وتفنى الكفار؛ وأيام سلمه كلها عدل وهبة، وصدقات منجية منجبة، ورفع ظلامات متشعبة، وقمع نفوس متوثبة، وحسم خطوب مستدة، وحقظ الحوزة الإسلامية من كل بأس ووقايتها من كل شدة، وفي خلال كل عام تصرف عزائمه الشريفة إلى ابتغاء صيد الوحش والطير: لما في ذلك من تمرين النفوس على اكتساب التأييد، وحصول المسرة بكل ظفر جديد؛ فيرسم- خلد الله سلطانه- في الوقت الذي يرسم به من مشتى كل عام بإخراج الدهليز المنصور فينصب في بر الجيزة بسفح الهرم، في ساعة مباركة آخذة في إقبال الجود والكرم؛ فتمد بالتأييد أطنابه، وترفع على عمد النصر قبابه، ويحاط بحراسة الملائكة الكرام رحابه، وتضرب خيام الأمراء حوله وطاقاً، وتحف به مثل النجوم بالبدر اشراقا؛ ويستقل الركاب الشريف- شرفه الله- بعد ذلك بقصد عبور النيل المبارك فيظهر من القلعة المحروسة والسلامة تحجبه من المخافة، والحراسة تصحبه فيما قرب ونأى من المسافة، ولسان السعد قد خاطبه بالتحية وشافه، ومماليكه الأمراء قد حفوا به أطلاباً، وسني موكبه قد بعث أمامه من الإضاءة نجاباً؛ ولم يزل حتى يأتي النيل المبارك ويستوي على الكرسي في الفلك المشحون، محوطاً بالنصر الميمون والجيش المأمون، وقد استبشر باعتلائه البحر والنون، وأضحى لظهر الفلك من الفخار بحضرته المكرمة، ما لصهوات أجياده العتاق المسومة، فلهذا نشر أعلام بشراها، {وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها}، فسارت به في اليم، ونصر الله قد تم، وصعد من فلكه، على ما يسر نفوس المؤمنين في كمال سلطانه وعزة ملكه، واستقر على جواد شرفت صهوته، وقرنت بالأناة والسكون خطوته، عربي النجار، يختال في سيره كأنما انتشى من العقار:
ويختال بك الطرف ** كأن الطرف نشوان

ترى الطرف درى أو ** ليس يدري أنك سلطان

وسار في زروع مخضرة، وثغور نبات مفترة؛ وقد طلعت للظفر شموسه وبدوره، وأعدت للصيد بزاته وصقوره، من كل متوقد اللحظ من الشهامة، محمول على الراحات من فرط الكرامة، يتوسم فيه النجاح، قبل خفق الجناح، ويخرج من جو السماء ولا حرج ولا جناح؛ وبازها الأشهب، يجيء بالظفر ويذهب بصدر مفضض وناظر مذهب، له منسر أقنى، طالما أعنى، كأنما هو شبا السنان وقد حباه الكماة طعنا:
وصارم في يديك منصلت ** إن كان للسيف في الوغى روح

متقد اللحظ من شهامته ** فالجو من ناظريه مجروح

قد راش النجح جناحه، وقرن الله باليمين غدوه ورواحه، ونصره في حربه حيث جعل منسره رمحه ومخلبه صفاحه، في قوادمه السعد قادم، وفي خوافيه النصر ظاهر المعالم، كأنما ألهم قمله صلى الله عليه وسلم: «بورك لأمتي في بكورها»، فيسرح والطير جاثمة في وكورها، ويخرج في إغباش السحر وعليه سواد، فيهابه الصادح في الجو والباغم في الواد، ويأمر- خلد الله سلطانه- أمراءه فيضربون على الطير حلقة وهي لاهية في التقاط حبها، غافلة عما يراد بها، فيذعرونها بخفق الطبول وضربها، ومولانا السلطان- خلد الله ملكه- لنافرها مترقب، ولطائرها بالجارح معقب، فما يدنو الكركي مقروراً، حتى يؤوب مقهوراً، ساقطاً من سمائه إلى أرضه، ومن سعته إلى قبضه، فسبحان من خلق كل جنس وقهر بعضه ببعضه؛ هذا: والجارح قد أنشب فيه مخالبه، وسد عليه سبله في جو السماء ومذاهبه؛ ولم يزل- خلد الله تعالى سلطانه- عامة يومه متوغلاً في التمتع بلذات صيوده، وأوقات سعوده، وحصول أربه ومقصوده، وجنود الملائكة حافون به وجنوده، حتى ينسخ النهار الليل بظلمائه، ويلمع الطارق بأضوائه، فيعود عند ذلك الركاب الشريف إلى المخيم المنصور والجوارح كاسبة، والأقدار واهبة، والجوارح مسرورة، والطيور مأسورة، والنفوس ممتعة، والمواهب منوعة، والأرجاء مضوعة، والله تعالى مع سلطانه بكلاءته: ومن كان مع الله كان الله معه، فيرفع أمامه فانوسان توءمان، كأنهما كوكبان بينهما اقتران، أو فرقدان رفعتهما يدان، فيدنو إلى مخيمه المنصور في سرادق العز الحفيل، وعصابة النصر الأثيل، وتترجل الأنصار قبل فسطاطه المعظم على قدر ميل، ويسعى بالشموع لتلقيه، ويسوى تحت الملك لترقيه، فعند ذلك يطوف بالدهليز أمراء الحرس بالشموع المرفوعة، والمزاهر المسموعة، فإذا طلع الفجر مستطيلاً، وجاء الصبح شيئاً قليلاً، عرضت عليه النعم فأعطاها، والمهمات الإسلامية فقضاها، وقدمت له الجياد المسومة فامتطاها، ويسرح إلى الصيد والجوارح التي صادت بالأمس قد استأسدت، وبسعادته إلى ظفرها قد أرشدت؛ فإذا سار ركابه الشريف فرقت على أثره عساكر الإسلام، وقوضت تلك الخيام كأنها الأيام.
ولم يبرح ذلك دأبه في كل يوم من أيام حركته حتى يأخذ حظه من صيد الطير، فعند ذلك يثني عنان السير، إلى اقتناص الوحش فيعد لإمساكها كل هيكل قيد الأوابد قد عقد الخير بناصيته فأصبح حسن المعاقد.
فمن أشهب: كريم المغار، ذي إهاب من النهار، وأديم كأنه صحيفة الأبرار، أبيض مثل الهدى، له في الصبح إثارة النصر وإغارة على العدا؛ علا قدر وغلا قيمة، وله إلى آل أعوج نسبة مستقيمة، إذا استن في مضمار يسبق البروق الخاطفة، ويخلف الريح حسرى وهي ولقفة، يجده الفارس بحرا، وله عند مجرى العوالي مع السوابق مجرى.
ومن أحمر: كأنما صبغ بدم الأعداء أديمه، وكأنما هو شقيق الشقيق وقسيمه؛ كرمت غرره وحجوله، وحسنت أعراقه وذيوله، مكلا مفر كجلمود صخر حطته من علي سيوله؛ حكى لونه محمر الرحيق، وله كل يوم ظفر جديد مع أنه عتيق.
ومن أدهم: مدرك كالليل، منصب كالسيل، كريم الناصية، جواب قاصية، كأن غرته صبح تنفس في الدجى الحالج، وكأنه من الليل باق بين عينيه كوكب يضيء المسالك، وكأن حجوله بروق تفرقت في جوانب الغسق فحسن منظراً لذلك؛ سنابكه يوري قدحها، وغرته ينير صبحها، وجوارحه مسود جنحها، وصهوته كمن فيها العز فلا يزال ظاهراً نجحها.
ومما سوى ذلك من الجياد المختبرة، والصافنات المعتبرة:
إذا ما صرفت اللحظ نحو شياته ** وألوانها فالحسن عنك مغير!

وإنما هي بصبرها على الظمى، وشدة عدوها في النور والظلما، وسبقها إلى غايات رهانها، وثباتها تحت رايات فرسانها.
وتليها الفهود الحسن منظرها، الجميل ظفرها، الكاسب نابها وظفرها؛ تفرق الليل في أهبها المجتمعة، وأدركت العواصم في هضابها المرتفعة، وجوهها كوجوه الليوث الخادرة، ووثباتها على الطريدة وثبات الفئة المؤمنة على المئة الكافرة، مقلصة الخواصر، عزماتها على الوحش حواصر؛ ما أطلقت على صيد إلا قنصته سريعاً، ولا بصرت بعانة من حمر إلا أخذتها جميعاً.
ثم الحوامي المعلمة، والضواري التي أضحت بالنجح متوسمة، ما منها إلا طاوي الخاصرة، وثباته طائلة غير قاصرة، بنيوب كالأسنة، وساعدين مفتولين تسبق بهما ذوات الأعنة، لو رآه عدي بن حاتم رضي الله عنه لضمه إلى ما لديه، وأكل مما أمسك عليه.
وتضرب العساكر حلقة ما يلتقي طرفاها إلا إلى الليل في اتساعها، تحوي سائر الأوابد على اختلاف أنواعها.
فمن نعام: خضب ظليمها لما أكل ربيعاً، واحمرت أطراف ريشه فكأنها سهام أصابت نجيعاً، طالت أعناقها الناحلة فكأنها خطية، واشتددت قوائمها الحاملة فكأنها مطية، شاركت الطير في وجود الجناح، وفارقتها في كثافة الأشباح، وأشبهت الوحش في مسكن القفار، وشدة النفار، قد اجتمع في ظاهرها اللونان من الوحش والطير وائتلف في باطنها الضدان من ماء ونار.
ومن ظباء: مسودة الأحداق حكت الحبائب في كحل المقل وحسن سوالف الأعناق؛ ابيضت بطونها، واحمرت متونها، وراقت أوراقها، وحلكت آماقها؛ نافرة في صحرائها، طيب مرعاها فالمسك من دمائها.
ومن بقر وحشية: عفر الإهاب، ساكنة الهضاب؛ لها في حقاف الرمل مرابض، حذراً من قانص قابض؛ كم في....................... من لوى يتهادى، كأن إبرة روقه قلم أصاب من الدواة مدادا.
ومن حمر إهابها أقمر منسوبة إلى أحد ولم تركب متونها، وقد حكى الجزع الذي لم يثقب في دجى الليل عيونها.
وعندما تلتقي حلقة العساكر يلحقها- خلد الله سلطانه- ومعه الجوارح الصائدة، والحوامي الصائلة، والأسهم النافذة، والفهود الآخذة، فتموج الوحش ذعراً، وترى مسالكها قد سدت عليها سهلاً ووعراً، وضرب دون نجاتها بسور من الجياد والفرسان، وحيل بينها وبين خلاصها بنبال وخرصان؛ فحينئذ تفر النعام عن رمالها، والظباء عن ظلالها، والبقر عن جآذرها، والحمر عن بولها؛ ويقبض- خلد الله سلطانه- من جنس الوحش كل نوع، ولم يمسكها بجارح لأمسكها كما تمسك عداة الإسلام بالروع؛ وتجزل منها المكاسب، وتملأ منها الحقائب؛ فإذا أخذ حظه من القبض ولذة اكتسابه، رسم لأمرائه بالصيد عند صدور ركابه؛ فيصيدون ويقنصون، زادهم الله من فضله- فإنهم في طاعته مخلصون؛ فيكثر عند ذلك كل قنص ذبيح، ويأتي كل بما اقتنصه ليظهر الترجيح؛ فإذا استكمل أوقلت الصيد من الطير والوحش ثنى ركابه الشريف إلى جهة القلعة المحروسة والقفار قد شرفت بمرور مواكبه، والوحش والطير قد افتخرت بكونها أصبحت من مكاسبه.
هذا كلها وإن كانت النفس تراه لهواً، وتبلغ به كل ما تهوى، ففي طيه من تمرين الجنود على الحرب ما تشد به العزمات وتقوى؛ فيوم الركاب الشريف عائداً إلى سرير ملكه بالقلعة المحروسة، والسلامة قد قضت ما يجب عليها من حراسته، والأقدار قد وفت ما ينبغي من كلاءته؛ فلم يك إلا وهو صاعد إلى القلعة المحروسة وألسنة السعادة تخاطبه، وسريره قد اهتزت فرحاً بمقدمه جوانبه، والصيد المبارك قد سعدت مباديه وحمدت عواقبه، فيلقي أهبة السفر، ويأخذ فيما بطن من المصالح الإسلامية وظهر، وتنشده ألسنة السلامة ما أملى عليها العز والتأييد والظفر:
ملك البسيطة آب من سفره ** والنصر والتأييد في أثره

فكأنه في عز موكبه ** بدر تألق في سنا خفره

ما في البرية مثله ملك ** أوتي الذي أوتيه من ظفره!

يسري إلى أعدائه رهب ** مما يبث الناس من خبره

فالله رب الناس فاطرنا ** يؤتيه مايربي على وطره!!

الصنف الثاني من الرسائل ما يرد منها مورد المدح والتقريض إما بأن يجعل المدح مورد الرسالة ويصدر بمدح ذلك الشخص المراد، وإما بأن يصدر بما جرية يحكيها المنشيء ويتخلص منها إلى مدح من يقصد مدحه وتقريضه، وما يجري مجرى ذلك. وللكتاب وأهل الصناعة في ذلك أفانين مختلفة المقاصد، وطرق متباينة الموارد.
وهذه نسخة رسالة أنشأها أبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ سماها رسالة الشكر قصد بها تقريض وزير المتوكل وشكر نعمه لديه، مصدراً لها بذكر حقيقة الشكر وبيان مقاصده؛ وهي: جعلت فداك، أيدك الله وأكرمك وأعزك، وأتم نعمته عليك وعندك. ليس يكون الشكر- أبقاك الله- تاماً، ومن حد النقصان خارجاً، حتى يستصبأربع خلال، ويشتمل على أربع خصال:
أولها: العلم بموقع النعمة من المنعم عليه، وبقدر انتفاعه بما يصل إليه من ذلك: من سد خلة، أو مبلغ لدة وعلو في درجة، مع المعرفة بمقدار احتمال المنعم للمشقة، والذي حأول من المعاناة والكلفة في بذل جاه مصون، أو مفارقة علق ثمين. وكيف لا يكون كذلك؟ وقد خول من نعمه بعض ما كان حبيساً على حوادث عدة، فزاد في نعم غيره بما انتقص من نعم نفسه وولده. فكلما تذكر الشاكر ما احتمل من مؤونة البذل، سهل عليه احتمال ما نهض به من ثقل الشكر.
والخصلة الثانية: الحرية الباعثة على حب المكافأة واستحسان المجازاة. والشكر من أكبر أبواب الأمانة، وأبعده من أسباب الخيانة؛ ولن يبلغ أحد في ذلك غاية المجد إلا بمعونة الطمع، وإلا الحرب سجال بينهما، والظفر مقسوم عليهما. كذلك حكم الأشياء إذا تساوت في القوة، وتقاربت في بلوغ المدة. وقد زعم ناس أن الشاكر والمنعم لا يستويان، كما أن البادئ بالظلم والمنتصر لا يعتدلان، لأن البادئ أخذ ما ليس له، والمنتصر لم يتجاوز حقه الذي هو له، ولأن البادئ لم يكن مهيجاً على الظلم بعلة جناها المنتصر، والمنتصر مهيج على المكافأة بعلة جناها البادئ، والمثور للطباع المغتصب، والمستخف المهيج أعذر من الساكن الوداع المطمئن. فلذلك قالوا: إن البادئ أظلم، والمنتصر أعذر. وزعموا أن المنعم هو الذي أودع صدر الشاكر المحبة بإنعامه عليه، وهيجه بذلك على مكافأته لإحسانه إليه فقد صار المنعم شريك الشاكر في إحسانه، وتفرد بفضل إنعامه دون مشاركة غيره؛ والمنعم هو الذي دفع للشاكر أداة الشكر، وأعاره آلة الوفاء، فهو من ههنا أحق بالتقديم، وأولى بالتفضيل.
هذا: وقد قال بعض الحكماء والأدباء والعلماء: من تمام كرم المنعم التغافل عن حجته، والإقرار بالفضيلة لشاكر نعمته، لأن المحاجة مغالبة، ولا تتم مودة إلا مع المسامحة. ولذلك قال الربيعي لناس من العرب يختصمون: هل لكم في الحق أو مع المسامحة. ولذلك قال الربعي لناس من العرب يختصمون: هل لكم في الحق أو خير منه؟ قالوا: قد عرفنا الحق، فما الذي هو خير منه؟ قال: التغافل فإن الحق مر. ألا ترى إلى بنت هرم بن سنان لما قالت لابنة زهير بن أبي سلمى في بعض المناحات، أو في بعض الزاورات: إنه ليعجبني ما أرى من حسن شارتكم، ونقاء نفحتكم. قالت ابنة زهير: أما والله لئن قلت ماقلت، فما ذلك إلا من فضول ما وهبتم، ومن بقايا ما أنعمتم. قالت بنت هرم: لابل لكم الفضل، وعلينا الشكر؛ أعطيناكم ما يفنى، وأعطيتمونا ما يبقى. وقيل لعبد الله بن جعفر حين أجزل لنصيب الشاعر في الهبة، وكثر له في العطية: أتنيل هذا العبد الأسودكل هذا النيلن وتحبوه بمثل هذا الحباء؟ فقال عبد الله بن جعفر: أما والله لئن كان أسود الجلد إنه لأبيض الشعر؛ أعطيناه دراهم تفنى، وثياباً تبلى، ورواحل تنضى، وأعطانا ثناء يبقى، وحديثاً يثنى، ومكارم لا تبلى. فلهذه الخصال تكاملت خصال المجد فيهم، فظهر عنوان كرم الخير عليهم، فصاروا في زمانهم مناراً، ولمن بعدهم أعلاماً. وليس تتم معاني كرم المنعم، ومعاني وفاء الشاكر، ختى تتوافى أقوالهما، وتتفق أهواؤهما على تدافع الحجة، والإقرار بالمعجزة، فيزداد بذلك المنعم فضلاً والشاكر نبلاً.
هذا جملة القول في خصلتين من الأربع التي قدمنا ذكرها، وشهرنا أمرها.
والخصلة الثالثة: الديانة بالشكر، والإخلاص للمنعم في تصفيه الود، فإن الدين قائد المروءة، كما أن المروءة خطام الحمية. وهذه الخصال وإن تشعبت في بعض الوجوه، وافترقت في بعض الأماكن، فإنها ترجع إلى نصاب يجمعها، وإلى إناء يحفظها، منه نجمت، وعنه انبثت، وإليه رجعت. ولاجتماع هذه الخصال على مخالفة الهوى، ومجانبة الهوينى، وعلى اتهام دواعي الشهوة، والامتناع من كلب الطبيعة- وفق الألوان بينها في جملة الاسم، وقارنوا بينها في جمهرة الحكم. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اعتبر عزمه بحميته، وحزمه بمتاع بيته.
ومدار جميع الأحوال المحمودة على الصبر، ولن يتكلف مرارة الصبر من يجهل عاقبة الصبر. وقالوا: لما صار ثقل الشكر لا يحتمل إلا بالصبر، صار الشكر من نتاج الصبر. وكما انه لا بد للحلم- مع كرم الحلم- من الصبر، فكذلك لا بد للشكر- مع كرم الشكر- من الصبر. فالصبر يجري مع جميع الأفعال المحمودة، كما يجري الهوى مع جميع الأفعال المذمومة. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله عز وجل النار وحفها بالشهوات، وخلق الجنة وحفها بالمكاره».
الخصلة الرابعة: وصف ذلك الإحسان باللسان البين، وتخيره بالبيان النير، وبالفظ العذب الشهي، والمعنى الشريف البهي؛ فإن الكلام إذا كان حسناً، جعلته الحكماء أدباً، ووجدت الرواة إلى نشره سبباً، حتى يصير حديثاً مأثوراً، ومجداً مذكوراً، وداخلاً في أسمار الملوك، وسوقاً من أسواق المتأدبين، ووصله في المجالس، وزيادة في العقل، وشحذاً للسان، وترهيفاً للقلب، وتلطيفاً للفكر، وعمارة للصدر، وسلماً إلى العظماء، وسبباً إلى الجلة الكبراء. وإذا لم يكن اللفظ رائعاً، والمعنى بارعاً، وبالنوادر موشحاً، وبالملح مجلوا، لم تضع له الأسماع، ولم تنشرح له الصدور بالدرس، ولم يجذل به قائل، ولم يلتذ به سامع. ومتى لم يكن كذلك كان كلاماً ككلام اللغو، ومعاني السهو، وكالهجر الذي لا يقهم، والمستغلق الذي لا يعلم.
وليس- أبقاك الله- شيء أحوج إلى الحذق، ولا أفقر إلى الرفق، من الشكر النافع، والمديح الناجع، الذي يبقى بقاء الوشم، ويلوح كما يلوح النجم. كما أنه لا شيء أحوج إلى وسع الطاقة، وإلى الفضل في القوة، وإلى البسطة في العلم، وإلى تمام العزم- من الصبر. وعلى أن الشكر في طبقات متفاوتة، ومنازل متباينة؛ وإن جمعها اسم، فليس يجمعها حكم؛ فربما كان كلاماً تجيش به الصدور، وتمجه الأفواه، وتجدف به الألسنة، ويستمل فيه الرأي المقتضب، والخاطر المحتار، والكلام المرتجل، فيرمى به على عواهنه، وتبنىمصادرة على غير موارده، لا يتعذر فيه الشاكرون لانتفاع المنعمين، كما تعذر المنعمون لانتفاع الشاكرين. وليست غاية القائل إلا أن يعد بليغاً مفوهاً، أو يستزيد به إلى نعمة السالفة نعماً آنفة؛ أوليس إلا ليعتز كريماً، أو يختدع غنياً لا يتفقد ساعات القول، ولا يتعرف أقدار المستمعين؟ وليس غايته إلا الكسب والتعرض والانتفاع والترنح؛ وعلى هذا يدور شكر المستأكلين، وإحماد المتكسبين.
وهذا الباب وإن جعلته العوام شكراً، فهو بغير الشكر أشبه، وبذلك أولى؛ وربما كان شكره عن تأنق وتذكير، وعن تخير تخيير، وعن تفقد للحالات، وتحصيل للأمور في المقامات التي تحيط بمهجته، وبحضرة عدو لايزال مترصداً لنعمته؛ قربما التمس الزيادة في غبطه، وربما التمس شفاء دائه وإصلاح قلبه، ونقض المبرم من معاقد حقده، على قدر الرد، وعلى قدر تصرف الحالات في المصلحة، لأن الشاكر كالرائد لأهله، وكزعيم رهطه، والمشار إليه عند مشورته؛ فربما اختار أن يكون شكره شعراً: لأن ذلك أشهر، وربما اختار أن يكون كلاماً منثوراً: لأن ذلك أنبل، وربما أظهر اليسر وانتحل الثروة، وجعل من الدليل على ذلك كثرة النفقة، وحسن الشارة، ويرى أن ذلك أصدق المدحين، وأنبل الشكرين، ويجعل قائده إلى هذا المذهب، وسابقه إلى هذا التدبير قول نصيب:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ** ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب!

ومما يدخل في هذا الباب وليس به- قول العنزي:
يا بن العلاء ويا بن القرم مرداس ** إني لأطريك في أهلي وجلاسي

حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد؟ ** طأطأت من سوء حال عندها راسي!

اثني غليك ولي حال تكذبني ** بما أقول فأستحي من الناس!

وبين هذين الشكرين طبقات معروفة، ومنازل معلومة. وموضع الشكر من قلب السامع في القبول والاستنامة، على قدر حسن النية، والذي يعرف به الشاكر من صدق اللهجة، ومن قلة السرف، واعتدال المذاهب، والاقتصاد في القول. وهذا باب سوى الباب الآخر من حسن الوصف، وجودة الرصف؛ ولذلك لما أحسن بعض الواعظين فيالموعظة، وأبلغ في الاعتبار وفي ترقيق القلوب، ولما لم ير أحد يخشع، ولا عيناً تدمع، قال: ياهؤلاء إما أن يكون بي شر، أو يكون بكم شر.
وقيل لجلساء الفضل الرقاشي، وعبد الصمد بن الفضل الرقاشي: ما بال دموعكم عند الفضل أغزر، وكلام الفضل أنزر؟ قالوا: لأن قلب الفضل أرق، فصارت قلوبنا أرق، والقلوب تتجارى.
وقالوا: طوبى للممدوح إذا كان للمدح مستحقاً، وللداعي إذا كان للاستجابة أهلاً، وللمنعم إذا حظي بالشكر، وللشاكر إذا حظي بالقبول.
إني لست أحتشم من مدحك، لأني لست أتزيد في وصفك، ولست أمدحك من جهة معروفك عندي، ولا أصفك بتقديم إحسانك إلي، حتى أقدم الشكر الذي هو أولى بالتقديم، وأفضل الصنف الذي هو أحق بالتفضيل. وفي الخبر المستفيض، والحديث المأثور: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. وقليل باقخير من كثير فان.
تذاكر الناس عند بعض الحكماء طبقات السابقين في الفضل، وتنزيل حالاتهم في البر، ومن كانت الخصلة المحمودة فيه أكثر، والخصلة الثانية فيه أوفر، فقال ذلك الحكيم: ليس بعجب أن بعجب أن يسبق رجل إلى الإسلام، وكل شيء، فقد سبق إلى تقديمه ناس وأبطأ آخرون؛ وليس بعجب أن يفوق الرجل أترابه في الزهد، وأكفاءه في الفقه، وأمثاله في الذب: وهذا يوجد في كل زمان، ويصاب فيكل البلدان؛ ولكن العجب العجيب، والنادر الغريب، الذي تهيأ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه واتسق له؛ وذلك أنه غبر عشر حجج: يفتح الفتوح، ويدوخ البلاد، ويمصر الأمصار، ويدون الدواوين، ويفرض الفروض، ويرتب الخاصة، ويدبر العامة، ويجبي الفيء، وترمي إليه الأرض بأفلاذ كبدها، وأنواع زخرفها، وأصناف كنوزها، ومكنون جوهرها، ويقتل ملوكها، ويلي ممالكها، ويحل ويعقد، ويولي ويعزل، ويضع ويرفع، وبلغت خيله إفريقية، ودخلت خراسان: كل ذلك بالتدبير الصحيح والضبط، والاتقان والقوة، والإشراف، والبصر النافذ، والعزم المتمكن، ثم قال: لا يجمع مصلحة الأمة، ولا يحوشهم على حظهم من الألفة واجتماع الكلمة، وإقامتهم على المحجة، مع ضبط الأطراف، وأمن البيضة- إلا لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف. ثم غبر بعد ذلك سينه كلها على وتيرة واحدة، وطريقة مطردة؛ لاينجرف عنها، ولا يغيرها، ولا يسأمها، ولا يزول عنها: من خشونة المأكل والملبس، وغلظ المركب، وظلف النفس عن صغيرها وكبيرها، ودقيقها وجليلها، وكل ما يناجر الناس عليه؛ لم يتغير في لقاء ولا في حجاب، ولا في معاملة ولا في مجالسة، ولا في جمع ولا في منع، ولا قبض ولا بسط: والدنيا تنصب عليه صباً، وتتدفق عليه تدفقاً؛ والخصلة من خصاله، والخلة من خلاله، تدعو إلى الرغبة، وتفتح باب الألفة، وتنقض المبرم، وتفيد المروءة وتفسخ المنة، وتحل العقدة، وتورث الاعتزاز بطول السلامة، والاتكال على الدوام الظفر، ومواتاة الأيام، ومتابعة الزمان. وكان ثباته عشر حجج على هذه الحال أعجوبة، ومن البدائع الغريبة. وبأقل من هذا يظهر العجب، ويستمعل الكبر، ويظهر الجفاء، ويقل التواضع.
ونحن وإن لا نستجير أن نلحق أحداً بطباع عمر ومذهبه، وفضل قوته، وتمام عزمه، فأنا لانجد بداً من معرفة فضل كل من استقامت طريقته، ودامت خليقته، فلم يتغير عند تتابع النعم، وتظاهر الصنع، وإن كانت النعم مختلفة الأجناس، ومتفاوتة في الطبقات. وكيف يلحق به أحد؟ مع قوله: لو أن الصبر والشكر بعيران ما باليت أيهما ركبت، ولكنا على حال لاندع تعظيم كل من بان من نظرائه في المرتبة، وأشباهه في المنزلة، إذ كان أدومهم طريقة، وأشدهم مريرة، وأمضاهم على الجادة الوسطى، وأقدارهم على المحجة العظمى.
ولا بد من أن يعطى كل رئيس قسطه، وكل زمان حظه؛ ولا يعجبني قول القائل: لم يدع الأول للآخر شيئاً، بل لعمري لقد ترك له العريض الطويل، والثمين الخطير، واللقم النهج، والمنهج الرحب. ولو أن الناس مذ جرت هذه الكلمة على أفواه العوام، وأعجب بها الأغمار من الرجال- قلدوا هذا الحكم، واستسلموا لهذا المذهب، وأهملوا الروية، ويئسوا من الفائدة، إذن لقد كان ارتفع من الدنيا نفع كثير، وعلم غزير.
وأي زمان بعد زمان النبي صلى الله عليه وآله أحق بالتفضيل، وأولى بالتقديم، من زمان ظهرت فيه الدعوة الهاشمية، والدولة العباسية، ثم زمان المتوكل على الله، والناصر لدين الله، والإمام الذي جل فكره، وكثر شغله بتصفية الدين وتهذيبه، وتلخيصه وتنقيحه، وإعزازه وتأييده، واجتماع كلمته، ورجوع ألفته. وقد سمعت من يقول- ويستشهد العيان القاهر، والخبر المتظاهر-: ما رأيت فيزماننا من كفاة السلطان وولاته، وأعوانه وحماته، من كان يؤمل لمحلك، ويتقدم في التأهب له، إلا وقد كان معه من البذح والنفخ، ومن الصلف والعجب، ومن الخيلاء، ومن إفراط التغير للأولياء، والتهكم على الخلطاء، ومن سوء اللقاء، ما لا خفاء به على كاتب ولا على عامل، ولا على خطيب ولا على أديب، ولا على خاصي ولا على عامي.
فجمعت- والحمد لله على النعمة فيك- بين التواضع والتحبب، وبين الإنصاف وقلة التزيد؛ فلا يستطيع عدو معلن، ولا كاشح مسر، ولا جاهل غبي، ولا عالم مبرز، يزعم أنه رأى في شمائلك وأعطافك- عند تتابع النعم، وتظاهر المنن- تغيراً في لقاء ولا في في بشر عند المساءلة، ولا في إنصاف عند المعاملة، واحتمال عند المطأولة: الأمر واحد، والخلق دائم، والبشر ظاهر، والحجج ثاقبه، والأعمال زاجية، والنفوس راضية، والعيون ناطقة بالمحبة، والصدور مأهولة بالمودة، والداعي كثير، والشاكي قليل؛ وأنت بحمد الله تزداد في كل يوم بالتواضع نبلا، وبالإنصاف فضلاً، وبحسن اللقاء محبة، وبقلة العجب هيبة.
وقال سهل بن هارون في دعائه لبعض من كان يعتني بشأنه: اللهم زده من الخيرات، وابسط له في البركات، حتى يكون كل يوم من أيامه موفياً على أمسه، مقصراً عن فضيلة غده. وقال في هذا المعنى أعشى همدان، وهو من المخضرمين:
رأيتك أمس خير بني معد ** وأنت اليوم خير منك أمس

وبعد غد تزيد الخير ضعفاً ** كذاك تزيد سادة عبد شمس!

قد- والله- أنعم الله عليك وأسبغ، فاشكر الله وأخلص. محتدك شريف، وأرومتك كريمة، والعرق منجب، والعدد دثر، والأمر جميل، والوجوه حسان، والعقول رزان، والعفاف ظاهر، والذكر طيب، والنعمة قديمة، والصنيعة جسيمة، وما مثلكم إلا كما قال الشاعر:
إن المهالبة الكرام تحملوا ** دفع المكاره عن ذوي المكروه

زانوا قديمهم بحسن حديثهم ** وكريم أخلاق بحسن وجوه!

النعمة محفوظة بالشكر، والأخلاق مفومة بالأدب، والكفاءة محفوظة بالحذق مردود إلى التوكل، والصنع منوراء الجميع إن شاء الله.
هذا إلى ما أسبلك الله من القبول، وغشاك من المحبة، وطوقك من الصبر، فبقي الآن أن نشتهي ما أنت فيه شهوة في وزن هذه المرتبة، وفي مقدار هذه المنزلة، فإن الرغبة وإن قويت، والرهبة وإن اشتدت، فإنهما لا يثمران من النشاط، وينتجان من القوة على المباشرة والكد، ما تثمره الشهوة وإن ضعفت، والحركة من ذات النفس وإن قلت، لأن النفس لا تسمح بمكنونها كله، وتجود بمخزون قواها أجمع، إلا بالشهوة دون كل علة محركة، وكل سبب مهيج.
قال يحيى بن خالد لجعفر بن يحيى حين تقلد الوزارة، وتكلف النهوض بأعباء الخلافة: أي بني، إني أخاف عليك العجز: لعظيم ما تقلدت، وجسيم ما تحملت. إني لست آمن أن تتفسخ تحت ثقلها تفسخ الجمل تحت الحمل الثقيل. قال جعفر: لكني أرجو القوة، وأطمع أن أستقل بهذا الثقل وأنا مبتهل غير مبهور، وأجيء قبل السوابق وأنا ثاني. يقول وأنا ثاني عناني، لأني لم أجهد فرسي ركضاً. قال يحيى: إن لكل رجاء سبباً، فما سبب رجائك؟ قال: شهوتي لما أنا فيه، والمشتهي للعمل لا يجد من ألم الكد ما يجده العسيف الأسيف. قال يحيى: إن نهضت بثقلها فبهذا، وإلا فلا. وأنا أسأل الله أن يصرف شهوتك إلى حب ذلك، وهواك إلى الاحتفاظ بنعمتك: بشكر المصلحين، والتوكل على رب العالمين.
وحق لمن كان غرس المتوكل على الله وابتدائه، ومن صنائعه واختباره، أن يخرج على أدبه وتعليمه، وعلى تثقيفه وتقويمه، وأن يحقق الله فيه الأمل، وينجز فيه الطمع، وأن يمد له في السلامة، ويجزل له من الغنيمة، وبطيب ذكره، ويعلى كعبه، ويسر صديقه، ويكبت عدوه.
وهذه نسخة رسالة تسمى الإغريضية، أرسلها أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري التنوخي إلى أبي القاسم الحسين بن علي المغربي؛ وهي:
بسم الله لرحمن الرحيم وبه الإعانة السلام عليك أيتها الحكمة المغربية، والألفاظ العربية؛ أي هواء رقاك، وأي غيث سقاك؛ برقة كالإحريص، وودقه مثل الإغريض؛ حللت الربوة، وجللت عن الهبوة؛ أقول لك ما قال أخو بني نمير، لفتاة بني عمير:
زكا لك صالح وخلاك ذم ** وصبحك الأيامن والسعود!

لأنا آسف على قربك من الغراب الحجازي، على حسن الزي، لما أقفر، وركب السفر، فقدم جبال الروم في نو، أنزل البرس من الجو، فالتفتت إلى عطفه وقد شمط فأسي، وترك النعيب أو نسي، وهبط إلى الأرض فمشى في قيد، وتمثل ببيت دريد:
صياما صبا حتى علا الشيب رأسه ** فلما علاه قال للباطل ابعد!

وأراد الإياب، في ذلك الجلباب، فكره الشمات، فكمد حتى مات؛ ورب ولي أغرق في الإكرام، فوقع في الإبرام، إبرام السأم، لا إبرام السلم؛ فحرس الله سيدنا حتى تدغم الطاء في الهاء، فتلك حراسة بغير انتهاء؛ وذلك أن هذين ضدان، وعلى التضاد متباعدان، رخو وشديد، وهاد وذو تصعيد، وهما في الجهر والهمس، بمنزلة غد وأمس؛ وجعل الله رتبته التي هي كالفاعل والمبتدأ، نظير الفعل في أنها لا تنخفص أبدا، فقد جعلني: إن حضرت عرف شاني، وإن غبت لم يجهل مكاني، ك يا في النداء، والمحذوف من الابتداء، إذا قلت: زيد أقبل، والإبل الإبل، بعد ما كنت كهاء الوقف إن ألقيت فبواجب، وإن ذكرت فغير لازب.
إني وإن غدوت في زمان كثير الدد، كهاء العدد، لزمت المذكر، فأنت بالمنكر، مع إلف يراني في الأصل، كألف الواصل، يذكرني بغير الثناء، ويطرحني عند الاستغناء، وحال كالهمزة تبدل العين، وتجعل بين بين، وتكون تارة حرف لين، وتارة مثل الصامت الرصين، فهي لا تثبت على طريقة، ولا تدرك لها صورة في الحقيقة، ونوائب ألحقت الكبير بالصغير كأنها ترخيم التصغير، ردت المستحلس إلى حليس، وقأبوس إلى قبيس؛ لأمدن صوتي بتلك الآلاء، مد الكوفي صوته في هؤلاء، واخفف عن حضرة سيدنا الوزير الرئيس الحبر، تخفيف المدني ما قدر عليه من النبر؛ إن كاتبت فلست ملتمس جواب، وإن أسهبت في الشكر فلست طالب ثواب، حسبي ما لدي من أياديه، وما غمر من فضل السيد الأكبر أبيه، أدام الله لهما القدر ما دام الضرب الأول من الطويل صحيحاً، وال[منسرح] خفيفاً سريحاً؛ وقبض الله يمين عدوهما عن كل معن، قبض العروض من أول وزن، وجمع له المهانة إلى التقييد، كما جمعا في ثاني المديد، وقلم قلم الفسيط، وخبل كسباعي البسيط، وعصب الله الشر بهامة شانئهما وهو مخزو، عصب الوافر الثالث وهو مجزو، بل أضمرته الأرض إضمار ثالث الكامل، وعداه أمل الآمل، وسلم سيدانا أعز الله نصرهما ومن أحباه وقرباه سلامة متوسط المجموعات، فإنه آمن من المروعات؛ فقد افتننت في نعمهما الرائعة، كافتنان الدائرة الرابعة، وذلك أنها أم ستة موجودين، وثلاثة مفقودين.
وأنا أعد نفسي مراسلة حضرة سيدنا الجليلة عدة ثريا الليل، وثريا سهيل، هذه القمر، وتلك عمر، وأعظمه في كل وقت، إعظاما في مقة وبعض الإعظام في مقت؛ فقد نصب للآداب قبة صار الشام فيها كشامة المعيب، والعراق كعراق الشعيب؛ أحسب ظلالها من البردين، وأغنت العالم عن الهندين، هند الطيب، وهند النسيب، ربة الخمار، وأرباب فمار، أخدان التجر، وخدينة الهجر.
ما حاملة طوق من الليل، وبرد من المرتبع مكفوف الذيل، أوفت الأشاء، فقالت للكئيب ما شاء؛ تسمعه غير مفهوم، لا بالرمل ولا بالمزموم؛ كأن سجيعها قريض، ومراسلها الغريض؛ فقد ماد لشجوها العود، وفقيدها لا يعود؛ تندب هديلاً فات، وأتيح له بعض الآفات- بأشواق إلى هديلها من عبده إلى مناسمه أنبائه، ولأوجد على إلفها منه على زيارة فنائه؛ وليست الأشواق، ولذوات الأطواق، ولا عند الساجعة، عبرة متراجعة، إنما رأت الشرطين، قبل البطين، والرشاء بعد العشاء، فحكت صوت الماء في الخرير، وأتت براء دائمة التكرير، فقال جاهل فقدت حميماً، وثكلت ولداً كريماً: وهيهات يا باكية، أصبحت فصدحت، وأمسيت فتناسيت، لا همام لا همام، ما رأيت أعجب من هاتف الحمام: سلم فناح، وصمت وهو مكسور الجناح؛ إنما الشوق لمن يدكر في كل حين، ولا يذهله مضي السنين.
وسيدنا الوزير أطال الله بقاؤه القائل النظم في الذكاء مثل الزهر، وفي النقاء مثل الجوهر، تحسب بادرته التاج؛ ارتفع عن الحجاج، وغابرته الحجل في الرجل؛ يجمع بين اللفظ القليل، والمعنى الجليل، جمع الأفعون في لعابه بين القلة وفقد البلة؛ خشن فحسن، ولان فما هان؛ لين الشكير، يدل على عتق المحضير، وحرش الدينار آية كرم النجار؛ فصنوف الأشعار بعده كألف السلم، يلفظ بها في الكلام، ولا تثبت لها هيئة بعد اللام، خلص من سبك النقد خلوص الذهب من اللهب، واللجين من يد القين كأنه لآل في أعناق حوال، وسواه لط في عنق ثط، ما خانته قوة الخاطر الأمين، ولا عيب بسناد ولا تضمين؛ وأين النثرة من العثرة، والغرقد من الفرقد؟؛ فالساعي في أثره فارس عصا بصير، لا فارس عصا قصير.
وأنا ثابت على هذه الطوية ثبات حركة البناء، مقيم تلك الشهادة بغير استثناء، غني عن الأيمان فلا عدم، مقسم على ما قلت فلا حنث ولا ندم؛ وإنما تخبأ الدرة للحسناء الحرة، ويجاد باليمين في العلق الثمين، وما أنفسه خاطراً امترى الفضة من القضة، والوصاة من مثل الحصاة؛ وربما نزعت الأشباه، ولم يشبه المرء أباه؛ ولا غرو لذلك: الخضرة أم اللهيب، والخمرة بنت الغربيب.
وكذلك سيدنا: ولد من سحر المتقدمين، حكمة للحنفاء المتدينين؛ كم له من قافية تبني السود، وتثني الحسود، كالميت، من شرب العاتقة الكميت: نشوره قريب، وحسابه تثريب؛ أين مشهور الناقة بالفدن، والصحصح برداء الردن؛ وجب الرحيل، عن الربع المحيل؛ نشأ بعدهم واصف، غودر رأله كالمناصف، إذا سمع الخافض صفته للسهب الفسيح، والرهب الطليح، ود أن حشيته بين الأحناء، وخلوقه عصيم الهناء، وحلم بالقود في الرقود، وصاغ برى ذوات الأرسان، من برى البيض الحسان، شنفاً لدر النحور، وعيون الحور، وشغفاً بدر بكي، وعين مثل الركي، وإعراضاً عن بدور، سكن في الخدور، إلى حول، كأهله المحول؛ فهن أشباه القسي، ونعام السي؛ وإن أخذ في نعت الخيل فياخيبة من سبه الأوابد بالتقييد، وشبه الحافر بقعب الوليد، نعتاً غبط به الهجين المنسوب، والبازي اليعسوب، إذ رزق من الخير، ما ليس لكثير من سباع الطير؛ وذلك أنه على الصغر، سمي بعض الغرر؛ وقد مضى حرس وخفت جرس؛ وللقالع أبغض طالع، والأزرق، يجنبك عنه الفرق.
ف الآن سلمت الجبهة من المعض، وشمل بعضها بركات بعض، فأيقن النطيح، أن ربه لا يطيح، والمهقوع، نجاء راكبه من الوقوع، فلن يحرب، قائد المغرب، ولن يرجل سائس الأرجل، والعاب، وإن لحق الكعاب، فإنه ناكب، عن ناقلات المراكب. وقالت خيفانة امرئ القيس: الدباءة، لراعي المباءة، والأثفية، للقدر الكفية نقماً على جاعل عذرها كقرون العروس، وجبهتها كمحذف التروس؛ وأنى للكندي، قواف كهجمة السعدي:
إذا اصطكت بضيق حجرتاها ** تلاقى العسجدية واللطيم!

فالقسيب، في تضاعيف النسيب، والشباب في ذلك التشبيب؛ ليس رويه بمقلوب، ولكنه من إرواء القلوب؛ قد جمع أليل ماء الصبا وصليل ظماء الظبا؛ فالمصراع كوذيلة الغريبة، حكت الزينة والريبة، وأرت الحسناء سناها، والسمجة ما عناها؛ فأما الراح فلو ذكرها لشفت من الهرم، وأنتفت من الكرم إلى الكرم، ولم ترض دنان العقار، بلباس القار، ونسج العناكب، على المناكب، ولن تكسى من وشي ثيابا، ويجعل طلاؤها زريابا؛ ولقد سمعته ذكر خيمة يغبط المسك جارها من الشيام، ويود سعد الأخبية أنه سعد الخيام.
ووقفت على مختصر إصلاح المنطق الذي كاد بسماة الأبواب، يغني عن سائر الكتاب، فعجبت كل العجب من تقييد الأجمال، بطلاء الأحمال؛ وقلب البحر، إلى قلت النحر وإجراء الفرات في مثل الأخرات؛ شرفاً له تصنيفاً شفى الريب، وكفى من ابن قريب، ودل على جوامع اللغة بالإيماء، كما دل المصمر على ما طال من الأسماء.
أقول في الإخبار: أمرت أبا عبد الجبار؛ فإذا أضمرته، عرف متى قلت: أمرته؛ وأبل من المرض والتمريض، بما أسقط من شهود القريض؛ كأنه في تلك الحال، شهدوا بالمحال، عند قاض، عرف أمانتهم بالانتقاض، على حق علمه بالعيان، فاستغنى فيه عن كل بيان.
وقد تأملت شواهد إصلاح المنطق فوجدتها عشرة أنواع في عدة أخوة الصديق، لما تظاهرو على غير حقيق، وتزيد على العشرة بواحد، كأخ ليوسف لم يكن بالشاهد. والشعر الأول وإن كان سبب الأثرة، وصحيفة المأثرة، فإنه كذوب القالة، نموم الإطالة؛ وإن قفا نبك على حسنها، وقدم سنها، لتقر بما يبطل شهادة العدل الرضا، فكيف بالبغي الأنثى؟! قاتلها الله عجوزاً لو كانت بشرية، كانت من أغوى البرية. وقد تمادى بأبي يوسف رحمه الله الاجتهاد، في إقامة الأشهاد، حتى أنشد رجز الضب، وإن معداً من ذلك لجد مغضب؛ أعلى فصاحته يستعان بالقرض، ويستشهد بأحناش الأرض؟! ما رؤبة عنده في نفير، فما قولك في ضب دامي الأظافير؟! ومن نظر في كتاب يعقوب وجده كالمهمل إلا باب فعل وفعل، فإنه مؤلف على عشرين حرفاً: ستة مذلقة، وثلاثة مطبقة، وأربعةمن الحروف الشديدة، وواحد من المزيدة، ونفيثتين: الثاء والذال، وآخر متعال والأختين العين والحاء، والشين مضافة إلى حيز الراء. فرحم الله أبا يوسف لو عاش لفاض كمدا، أو أحفاظ حسدا؛ سبق ابن السكيت ثم صار السكيت، وسمق ثم حار وتداً للبيت؛ كان الكتاب تبراً في تراب معدن بين الحث وبين المتدن؛ فاستخرجه سيدنا واستوشاه، وصقله فكره ووشاه، فغبطه النيرات على الترقيش، والآل النقيش؛ فهو محبوب ليس بهين، على أنه ذو وجهين؛ ما نم قط ولا هم، ولا نطق ولا أرم، فقد ناب في كلام العرب الصميم، منال مرآة المنجم في علم التنجيم؛ شخصها ضئيل ملموم، وفيها القمران والنجوم.
وأقول بعد في إعادة اللفظ: إن حكم التأليف في ذكر الكلمة مرتيين، كالجمع في النكاح بين الأختيين: الأولى حل يرام، والثانية بسل حرام؛ كيف يكون في الهودج لميسان، وفي السبة خميسان؛ ياأم الفتيات حسبك من الهنود ويا أبا الفتيان شرعك من السعود؛ عليك أنت بزينب ودعد، وسم أيها الرجل بسوى سعد؛ ما قل أثير، والأسماء كثير.
مثل يعقوب مثل خود كثيرة الحلي ضاعفته على التراق، وعطلت الخصر والساق؛ كان يوم قدوم تلك النسخة يوم ضريب حشر الوحش مع الإنس، وأضاف الجنس إلى غير الجنس؛ ولم يحكم على الظباء بالسباء، ولا رمى الآجال بالأوجال؛ ولكن الأضداد تجتمع، فتستمع؛ وتنصرف بلذات، من غير أذاة؛ وإن عبده موسى لقيني نقابا؛ فقال: هلم كتابا؛ يكون لك شرفاً، وبموالاتك في حضرة سيدنا- أطال الله بقاءه- معترفاً؛ فتلوت عليه هاتين الآيتين: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. وأحسبه رأى نور السؤدد فقال لمخلفيه ما قاله موسى صلىالله عليه لأهليه: {إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى}، فليت شعري: ما يطلب؟ أقبس ذهب؟ أم قبس لهب؟ بل يتشرف بالأخلاق الباهرة، ويتبرك بالأحساب الطاهرة:
باتت حواطب ليلى يقتبسن لها ** جزل الجذى غير خوار ولا دعر!

وقد آبى من سفرته الأولى ومعه جذوة من نار قديمة: إن لمست فنار إبراهيم، أو أونست فنار الكليم؛ واجتنى بهاراً حبت به المرازبة كسرى، وحمل في فكاك الأسرى، وأدرك نوحاً مع القوم، وبقي غضاً إلى اليوم؛ وما انتجع موسى إلا الروض العميم ولا اتبع إلا أصدق مقيم؛ وورد عبده الزهيري من حضرته المطهرة وكأنه زهرة بقيع، أو وردة ربيع، كثيرة الورق، طيبة العرق؛ وليس هو في نعمته كالريم، في ظلال الصريم؛ والجاب في السحاب المنجاب؛ لأن الظلام يسفر، والغمام ينسفر؛ ولكنه مثل النون في اللجة، والأعفر تحت جربة.
وقد كنت عرفت سيدنا في ما سلف أن الأدب كعهود في غب عهود، أروت النجاد فما ظنك بالوهود؟؛ وأني نزلت من ذلك الغيث طسم، كأثر الوسم؛ منعه القراع، من الإمراع؛ يأبوس، بني سدوس العدو حازب، والكلأ عازب؛ يا خصب بني عبد المدان؛ ضأن في الحربث وإبل في السعدان؛ فلما رأيت ذلك أتعبت الأظل، فلم أجد إلا الحنظل، فليس في اللبيد إلا الهبيد؛ جنيته من شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. لبن الإبل عن المرار مر، وعن الأراك طيب حر.
هذا مثلي في الأدب، فأما في النشب، فلم تزل لي بحم الله تعالى وبقاء سيدنا بلغتان: بلغة صبر، وبلغة وفر، أنا منهما بين الليلة المرعية، واللقوح الربعية، هذه عام، وتلك مال وطعام، والقليل، سلم إلى الجليل، كالمصلي يريغ الضوء، باسباغ الوضوء، والتكفير، بإدامة التعفير، وقاصد بيت الله يغسل الحوب، بطول الشحوب.
وأنا فيمكاتبة حضرة سيدنا الجليل، والميل عن حضرة سيدنا الأجل والده- أعز الله نصره- كسب بن يعرب، لما ابتهل في التقرب، إلى خالق النور، ومصرف الأمور، نظر فلم ير أشرق من الشمس يدا، فسجد لها تعبدا. وغير ملوم سيدنا لو أعرض عن شقائق النعمان الربيعية، ومدائحه اليربوعية؛ مللاً من أهل هذه البلد المضاف إلى هذا الاسم؛ فغير معتذر ممن أبغض لأجلهم بني المنذر، وهم إلى حضرته السنية رجلان: سائل، وقائل؛ فأما السائل فألح، وأما القائل فغير مستملح؛ وقد سترت نفسي عنها ستر الخميص، بالقميص؛ وأخي الهتر، بسجوف الستر، فظهر لي فضله الذي مثله مثل الصبح إذا لمع تصرف الحيوان في شؤونه وخرج من بيته اليربوع، وبرز الملك من أجل الربوع، وفد يولع الهجرس، بأن يجرس في البلد الجرد، قدام الأسد الورد. وإني خبرت أن تلك الرسالة الأولى عرضت بالمعرض الكريم: فأوجب ذلك رحيل أختها، متعرضة لمثل بختها؛ وكيف لا تنفع، وفي اليم تقع، وهي بمقصد سيدنا فاخرة، ولو نهيت الأولى لانتهت الآخرة.
كملت الرسالة التي كتبها أبو العلاء إلى الوزير الكامل أبي القاسم المغربي قلت: وهذه رسالة أنشأتها في تقريض المقر الكريم الفتحي، أبي المعالي فتح الله، صاحب دواوين الإنشاء بالديار المصرية والممالك الإسلامية، أدام الله معاليه، في شهور سنة أربع عشرة وثمانمائة؛ وهي: الحمد لله الذي جعل الفتح محط رحال القرائح الجائدة، ومستقر نواها، ومحيط دائرة الأفكار الواردة، ومركز شعاع كواها، ومادة عناصر الأفهام الجائلة، وعتاد شكيمة قواها.
نحمده على أن خص المملكة المصرية من إيداع سرها المصون بأوسع صدر رحيب، وأنهض بتدبير مصالحها من إذا سرت كتائب كتبه إلى عدو أنشد من شدة الفرق:
قفا نبك من ذكرى حبيب

وأقام لنصرتها بأسل الأقلام وصفاح المهارق من إذا طرقها على البعد طارق تلا لسان يراعته: {نصر من الله وفتح قريب}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تسير بها برد الهداية إلى آفاق الأخلاق فتشيد لقلاع الإيمان بأقطار القلوب أركانا، وترقم أسرار شعائرها بنقس القبول في صحف الإقبال فتبدل داعيها بإذاعة خبرها من الإسرار إعلانا، وتدين بطاعتها ملوك الممالك النائية خضوعاً فتتخذ كتب رسائلها على المفارق بعد اللثم تيجانا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل نبي سن المعروف وندب إليه، وأكرم رسول جعل خير بطانتي الملك التي تأمره بالخير وتحثه عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا في السير سبيله واتبعوا في السيرة سننه واقتفوا فيه سننه، واتبعوا في المعروف آثاره فتلا عليهم تالي الإخلاص: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}، صلاة تتنافل على مر الزمان أخبارها، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن رياسه أهل الدول تتفاوت باعتبار قرب الرئيس من ملكه في مخاطبته ومناجاته، واعتماد تصرفه في أمور دولته وتنفيذ مهماته، والاستناد على رأيه في جليل خطوبه وعظيم ملماته:
فعال تمادت في العلو كأنما ** تحأول ثأراً عند بعض الكواكب

ولا خفاء أن صاحب ديوان الإنشاء من هذه الرتبة بالمحل الأرفع، والمنزلة التي لا تدافع ولا تدفع، والمقام الذي تفرد بصدارته فكان كالمصدر لايثنى ولا يجمع؛ إذ هو كليم الملك ونجيه، ومقرب حضرته وخطيه، بل عميد المملكة وعمادها، وركنها الأعظم وسنادها، حامي حومتها وسدادها، وعقدها المتسق ونظامها، ورأس ذروتها العلياء وسنامها، وجهينة خبرها، وحقيبة وردها وصدرها، ومبلغ أنبائها وسفيرها، وزند رأيها الموري ومشيرها.
فحيهلاً بالمكرمات وبالعلى ** وحيهلاً بالفضل والسؤدد المحض

هذا، وهو الواسط بين الملك ورعيته والمتكفل لقصيهم بدرك قصده وبلوغ بغيته، والمسعد للمظلوم من عزائم توقيعاته بما يقضي بنصرته؛ وحينئذ فلا يصلح لها إلا من كان من كرام الخيم بارز الخيام لا صطناع المعروف، ومع سمو الرتبة سامي الهمة لإغاثة الملهوف، ومع عز الجناب لدى ملكه لين الجانب لذي المسألة، ومع قربه بحضرة سلطانه قريباً من الرعية حتى من المسكين والأرملة.
وغير خاف أن كل وصف من هذه الأوصاف مع مقابلة كالضدين اللذين لا يجتمعان بحال، والنقيضين اللذين قضى العقل بأن الجمع بينهما محال، وأنى يجتمع العالي والهابط، والمرتفع والساقط؟ أم كيف تتصل الأرض بالسماء، أو يقع امتزاج عنصر النار بعنصر الماء؟ ومن ثم عز هذا المطلب لهذه الوظيفة حتى إنه لأعز من الجوهر الفرد، وقل وجوده حتى لم يوجد إلا الواحد الفذ الفرد، فلا تراه إن تراه إلا في حيز النادر، ولا تظفر به إلا ظفرك ببيض الأنوق إن كان يظفر به ظافر؛ إلا أنه ربما سمح الدهر فأتى بالفذ من هذا النوع في الزمن المتباعد، أو أسعد الدهر فأسعف بالواحد بعد ألف واحد.
ثم قد مضت برهة من الأيام وجيد ديوان الإنشاء من نظر من هو متصف ببعض هذه الأوصاف عاطل، والدهر يعد بمن يقوم فيه بتفريج كربة الملهوفين ولكنه يماطل:
يرفه ما يرفه في التقاضي ** وليس لديه غير المطل نقد!

إلى أن طلع نير الزمان وتوضح شروقه، وظهرت تباشير صباحه وأفل بطلوع السعد عيوقه، فأقبلت الدولة الظاهرية بسعادتها، وتلقتها الأيام الناصرية جارية منها على وفق عادتها، ووفر للدولتين من انتخاب الأصفياء قسمتها، ومخضت لها الرأي الصائب حتى ظهرت في الوجود زبدتها؛ فكان خلاصة اصطفائهما، وزبدة انتقائهما، المقر الأشرف، العالي، المولوي، القاضوي، الكبيري، السفيري، المشيري، الفتح، نظام الممالك الإسلامية وزمام سياستها، ومنفذ أمورها، وجامع رآستها؛ أبو المعالي فتح الله صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، زاد الله تعالى في ارتقائه على تعاقب الدول، وأجراه من خفي اللطف على أجمل العوائد وقد فعل، فألقي إليه من أسرار المملكة مقاليدها، واتفقت بحسن سفارته باتفاق الرواة أساندها، فنفذت بتنفيذه أمورها، وكملت بصحيح رأيه كسورها، فجرت الأمور بحسن تدبيره على السداد، ومشت الأحوال بلطف سفارته على أتم المراد، واعترفت له الكافة بالسيادة فأطاعت، وعرفت له الرعية تقدمه في الرآسة فرعت حرمته وراعت.
وإن أمور الملك أضحى مدارها ** عليه كما دارت على قطبها الرحى؟!

قد استعبد الخط فأصبح له كالخديم، وأتى من المعروف بكل غريب فأنسى من أثر عنه ذلك في الزمن القديم؛ فلو رآه خالد بن برمك لأحجم عن ملاقاته عظماً، أو ناوأه يحيى بن خالد لمات من مناوأته عدماً، أو سابقه الفضل وجعفر ابناه لسبقهما كرماً:
مناقب لو أني تكلفت نسخها ** لأفلست في أقلامها ومدادها!

أو سمع به الحسن بن سهل لقطع إليه الحزن والسهل، أو بصر به الفضل أخوه، لما أنه للفضل أهل، أو عاينه أبو علي بن مقلة لعلم أنه فاقه حظا وخطا، أو نظر ابن هلال إلى أهلة نوناته لتحقق أنه سبقه إلى تحرير هندسة الحروف وما أخطا:
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ** تفتح نوراً أو تنظم جوهرا!

فإن تكلم أتىمن بيانه بالسحر الحلال، أو حاور أتى من البلاغة بما يقصر عن رتبته سحبان في المقال، أو ترسل أعيى عبد الحميد في رسائله، أو كتب رتعت من روض خطه في زهر خمائله:
يؤلف اللؤلؤ المنثور منطقه ** وينظم الدر بالأقلام في الكتب!

فرأيه السيف لا ما صنع الهند، وعقله الصارم لا ما استودع الغمد:
ففي رأيه نجح الأمور ولم يزل ** كفيلاً بإرشاد الحيارى موفقا!

أقلامه تزري بالصوارم وتهزأ بالأسل، وتجري بصلة الأرزاق فتزيد على الأماني وتربو على الأمل:
بت جاره فالعيش تحت ظلاله ** واستسقه فالبحر من أنوائه!

فمكارمه تغني من الإملاق، وبواكره بالإسعاد تبادر الغدو والإشراق، وعطاياه تسير سير السحاب فتمطر الغيث على الآفاق.
كريم مساعي المجد يركب نجدة ** من الشرف الأعلى وبذل الفواضل

قد خدمته الحظوظ وأسعدته الجدود، وقسمت المنازل السنية فكان له منها سعد السعود:
لو عدد الناس ما فيه لما برحت ** تثني الخناصر حتى ينفذ العدد!

فلو غرس الشوك أثمر العنباء أنى أرادها، أو حأول العنقاء في الجو لصادها، أو زرع في السباخ لكان ذلك العام العام والسنة الخصبة، ولضوعفت مضاعفة حسناته فأنبتت كل حبة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة:
وإذا السعادة لاحظتك عيونها ** نم فالمخاوف كلهن أمان

واصطد بها العنقاء فهي حبائل ** واقتد بها الجوزاء فهي عنان!

قد لبس شرفاً لا تطمع الأيام في خلعه، وتقمص من الفضل جلباباً لا تتطلع الأيام إلى نزعه، وانتهى إليه المجد فوقف، وعرف الكرم مكانه فانحاز إليه وعطف.
فقصرت عنه خطا من يجاريه، وضاق عنه من يباريه:
نالت يداه أقاصي الكرم الذي ** مد الحسود إليه باعاً ضيقا!

فمناقبه تسبق أقلام الكاتب، وتستغرق طاقة الحاسب؛ ليس لارتفاعها غاية، ولا لتدولها نهاية؛ فلا توفى جامعة بشرطها، ولا تقوم جريدة ببسطها:
وقد وجدت مكان القول ذا سعة ** فإن وجدت لساناً قائلاً فقل!

قد هتف بمدحه خطباء الأقلام علىمنابر الطروس، ونطقت بفضله أفواه المحابر فنكست لرفعة قدره شوامخ الرؤوس، وطلعت في أفق المهارق سعود إيالته السعيدة فأفلت لوجوده النحوس، ورقمت محاسنه بنقس الليل على صفحات النهار فارتسمت، وحملت أخبار معروفه فتزاحمت الآفاق على انتشاق أرج ريحه العبقة واستهمت:
لقد كرمت في المكرمات صفاته ** فما دخلت لاء عليها ولا إلا!

اتفقت الألسنة على تقريضه فمدح بكل لسان، وتوافقت القلوب على حبه فكان له بكل قلب مكان، واستغرقت ممادحه الأزمنة والأمكنة فاستولى شكره على الزمان والمكان:
ولم يخل من إحسانه لفظ مخبر ** ولم يخلي من تقريضه بطن دفتر!

على أني أستقيل عثرتي من التقصير من إطرائه، والتعرض من مدحه لما لا أنهض بأعبائه؛ فلو أن الجاحظ نصيري، وابن المقفع ظهيري، وقس بن ساعدة يسعدني، وسحبان وائل ينجدني، وعمر بن الأهتم يرشدني، لكان اعترافي بالعجز في مدحه أبلغ مما آتيه، وإقراري بالتقصير في شكره أولى مما أصفه من توالي طوله وأياديه:
ولو أن لي في كل منبت شعرة ** لساناً يطيل الشكر فيه لقصرا!

وهذه نسخة رسالة للشيخ الإمام العالم معين الدين تاج العلماء، خطيب الخطباء، زين الأئمة، قدوة الشريعة، الصدر أبي الفضل يحيى بن جعفر بن الحسن بن محمد الحصكفي رحمه الله، سماها: عتاب الكتاب، وعقاب الألقاب، المشتملة على أوصال الغريب والإغراب وهي: عذيري من وزراء النصبة وكنابها، وكبراء الدسوت وأربابها، وأواخي في زم نشر الأحوال، وساسة الممالك، وصحف أسرار المالك، الشامخين بأنوف التيه والكبرياء، والساحبين ذيول العجب والخيلاء، الرافلين في حلل البهاء والغافلين عن فروض العلاء، الذين تبوؤوا السؤدد من غير سداد، وتسنموا الرتب بلا إعداد فكأنهم الحاصب، وعدو الله المناصب؛ شغلهم الأشر والفجور، وكل على بسطته يجوز؛ همهم محح الأجراح، وشج الراح بالماء القراح، وامتطاء المرد، والعتاق الجرد؛ أملهم تنجيد الأفنية، وتشييد الأبنية، وزيادة في الرقيق والكراع والخول والاتباع، وليس بغال، كثرة خيل وبغال، بما باعوه من الورع والديانة وأضاعوه من العفة والصيانة:
قد ملكوا الدنيا على غرة ** ونافسوا فيها السلاطينا!

توزعوا الدولة والملك ** والحضرة والإسلام والدنيا

شادوا بأعمالهم دورهم ** وأخربوا فيها الدواوينا

عفوا وما عفوا بأقلامهم ** مساكناً تحوي مساكينا

عزتهم الدنيا بأن أظهرت ** عن غلطة تضمرها لينا

والدهر كم جرع في مرة ** مراً وحيناً ساقه حينا

يا أنفساً ذلت بإتيانهم ** ويك أتأتين الأتاتينا

لا ترغبي في رسلهم إنما ** تمرين في القعب الأمرينا!

وكان يجدي القصد لو أنهم ** يدرون شيئاً أو يدرونا

موتى همو فليك تقريظهم ** إن كنت لا تأبين تأبينا

لا يعتني الفضل بإطراء من ** يكون فيه الهجو مغبونا

لو رمت شيئاً دون أقدارهم ** لهجوهم لم تجد الدونا!!!

قد أخلدوا إلى الوضاعة، عن تحصيل البضاعة، وكفاهم من البراعة، بري اليراعة، وعنوا باسوداد الليقة، عن سؤدد الخليقة، وأحالوا على الرمم، عند قصور الهمم؛ ومن أعظم الآفات، فخرهم بالعظم الرفات.
وكأنهم لصميم هاشم ** أو من لهاميم العباشم

غشموا فما يغشاهم ** بالطوع إلا كل غاشم

لا يعين أحدهم على مروة، ولا ينعش ذا أخوة، ولا يرعى وارث أبوة، ولو اعتزى إلى نبوة، فهو غير أس بجوده، ولا مواس بموجوده؛ يروقك كيسه والغلام، وتروعك والأقلام؛ فإذا استنطق قلمه الصامت، أجذل عدوه الشامت؛ فزاد أدراجه ناكصاً.
فهو الذي أملى لهم حلمه ** مع الخنا والنكد الباهض

لو أنني وليت تأديبهم ** شفيت صدر النقه الناهض!

من ناظر يضحي بلا ناظر ** وعارض يمسي بلا عارض

ومشرف للدين ما قصده ** في الوطب إلا زبدة الماخض

وخازن إن لف مرضاته ** من حلوهم عف عن الحامض

ومن خبيث جاءنا ذكره ** في الذكر بين البكر والباهض

وكاتب لو انصفوا مهره ** لكان أولى منه بالرائض!!

إن وقع، رأيت اللفظ المرقع، وإن أطال وأسهب، أدال عرضه وأنهب، وكان أحق بتقليد العهود، وأولى بشطر المناشير، عن سطر المناشير، وأجدر بقبض الروح، إذا انبسط للشروح، وأخذ في ذكر الوقائع والفتوح، كفه بالجلم، أولى منها بالقلم، وأخلق بالمسحاة، من السحاة، وأليق بالؤوس، من الطروس، ويبري ويقط، ولا يدري ما يخط، إذ ليس في السفط، غير السقط؛ إن قاتحته أو طارحته، ظفرت بغصة الماتح، وخشر المفاتح؛ إن خط: فنونه كلامه وخلط فنونه في كلامه.
إن وقعوا وقعوا في ذم كل فم ** أو لأنفذوا أنفذتهم أسهم الكلم

أو قلدوا قلدوا خزياً يجللهم ** أو اقطعوا قطعوا شتماً بجعلهم

أراقم المال والأعمال إن رقموا ** جاؤوا من الرقم والألفاظ بالرقم

فالله يأخذ منهم للدواة ** وللأنقاس بالحق والقرطاس والقلم!!

فالجديد بهم سمل، والسوام بينهم همل، ولا علم عندهم ولا عمل؛ لهفي على الفضل المذال، برفعة الأنذال، وضياع الحقوق، وانصياع البيضة عن العقوق.
ثم ما على سيدنا الوزير، مع اصطحاب البم والزير، ونفاق سوقه، وانغماسه في فسوقه، واتصال صبوحه بغبوقه، وتخليه في البهو، للعب واللهو، من ظهرغي يركب، وذي يسار ينكب، وساع يشي، وراع يرتشي، ورسوم حيف تجدد، وسوآت تعدد، ما يضره من شكوى الجارح البغاث، وصريخ لا يغاث، ووال يعسف بأهل مصره، وإن شركه في أصره، وقاض لا ينصف الرعية، ولا يتبع القضايا الشرعية، وفقيه يسف إلى تحصيل عرض زائل، وتعجيل غرض من سائل؛ ماله ولحفظ المال، ومحاسبة العمال؟:
أم ما على العامل نمس الدجاج ** إن نقص الكرم وزاد الخراج؟

عليه أن يحصل في كمه ** شيء وإن أخلى جميع الخراج

وهو خراج عند ما ينتهي ** يبط بالمبضع ما في الخاج!!

شغلهم بالشهد المشور لا بمشهد يوم النشور، وقصدهم الجمع والاكتساب، ومتى الجمع والحساب، إنما هو مال يحتقب، لا مال يرتقب، وفساد في الأرض، لا إعداد ليوم العرض:
إني لأرثي للمراتب تحتوي ** عليها قرود فوقهن برود

سراع إلى السوآت فيما يسينهم ** ولكنهم عما يزين ركود

يقاظ إذا ما ثوب اللؤم داعياً ** وعند نداء المكرمات رقود

وما غرني إلا حلاوز حولهم ** وإلا قيام بينهم وقعود

لقد حسدوا ظلماً على ما أتاهم ** وهل لأخي نقص يسود حسود؟

وللسيد المحسود كف عن العلى ** تذود وأخرى بالنوال تجود

لحا الله دنيانا التي ضل سعيها ** وفيها علينا بالضلال شهود

إذا صغرت كاسم الحسين محلة ** علت وعلا فيها يزيد يزيد

إنما الصدر من صدره كماله، وحسنت أعماله، وجرد العزمات، فشرد الأزمات، ونفى بدبه الكربات، واصطفى لربه القربات، فسهل الغنى، وأفعم الإنا، ووضع مواضع النقب الهنا؛ فهو يهش للنوال، ويبش عند السؤال؛ لا يشوب ورده القذا، ولا يبطل منه بالمن والأذى؛ يبشر بشره بمحاسن الأخلاق، وينشر نشره الطيب في الآفاق، ويحسم بدواته داء الإملاق، ويحرز بقصبته قصب السباق:
يجردها من مثل وفضة نابل ** أجنتها من نافذات المعابل

وفي خطه المنسوب تزري شباتها ** بلهذم منسوب إلى الخط ذابل

وإن بذرت عن حبة القلب أنبتت ** من البر قبل البر سبع سنابل!!

دؤوبه لإقالة العاثر، وعمارة الداثر، وإشاعة المآثر؛ همه في معضلة تراض، ومعدلة تفاض، وخلل يسد، وجلل يصد، وعان بظهره يعان، وعات بقهره يهان؛ بابه مفتوح، وخيره ممنوح، وما أقل اللائم، لمن أكثر الولائم، وأغفل الجادب، لمن صنع المآدب، وأخلص الإخاء، لمن استخلص السخاء فبذل الرغوة والصريح، والسنام والإطريح، لا كمن يشح بالقتار، لفرط الإقتار، ويضن بالوضر، على المحتضر؛ ويبخل بالعراق، عمن روحه في التراق، ويسر الغميرة، لمن يبتغي الميرة، ويبطن الداء، لمن ينتظر الغداء، ويسعر الأحشاء، لمن ترقب العشاء:
مسلط سيرته نقمة ** وجائر قسمته ضيزى

ليس بذي لب يمل الثأى ** ولا لباب يملأ الشيزى!

يحقد على الإخوان، عند ظهور الخوان؛ فتراه يحدق، إلى من يشدق، وينتقم، ممن يلتقم، ويذل الأكيل، ويحل به التنكيل، ويبغض الشريب، وإن كان الخدن القريب؛ فالحائن من يرد، فيزدرد، والخائن من ينبسط، فيسترط؛ يشنأ من الأجراس، صوت الأضراس، وحشرجة البلاعم، بدحرجة المطاعم، وهرهرة الشدوق، وجرجرة الحلوق، وقد صدت حواجز بلواه، أفواهاً تصدت لحلواه، وحكمت لجامه، بحكمة لجامه، وعدت بكيوانه لهى وعدت بألوانه؛ رغيفه أعرز من الغريف، وأغرب من الشيء الطريف؛ صريف بابه، دون صريف نابه، ويحكم صك بابه، عن كبابه، ويعد سديف جفانه، من سديف أجفانه، يمانع بلديده، عن سفود قديده، ويصافح بصفحة وريده عن صحفة ثريده؛ حمله من نجوم الحمل، وسمكه فوق السماك الأعزل، وحوته الفرقد؛ دون عجته ارتفاع العجاجة، بين الحوت والأسد، وجديه عند جدي وتحت دجاجته ذنب الدجاجة:
يدرج في القدر دراجه ** ليلتقط الحبّ وطيهوجه

ففي السموات سماناته ** وعند ديك العرش فروجه

يحرس مائدته الدلو والعقرب، وهما منا أدنى وأقرب؛ يعجبه التثمير والاحتجان، ويلذ له التوفير والاختزان؛ وقصر مفاجأة أحوال، تصرح عن أهوال؛ وكأنك بالأيام بعد الابتسام، شاهرة للحسام؛ قد كشرت عن أنيابها العصل، في بكرها والأصل، وأجلت عن سليب مسحوب، لتنكر مصحوب؛ وآخر يتردد في البوس، ويخلد في الحبوس؛ قد حصل على سلة الحاوي، من سلة الحلاوي، ومن طعم العسل، على طعن الأسل، ومن العذب البارد، على حز المبارد:
تقبض من خطوه الكبول ** فهو على قيده يبول

خلا من الخير فهو طبل ** وهكذا تضرب الطبول

يشكو إلى الله مستغيثاً ** وما له عنده قبول

ذاك بما كان مستطيلاً ** تردي دواهبه والميول!

فهم بين حصى تعصر، وقفاً يقصر، وكعاب مثقوبة، وأنواع عقوبة؛ أو يقال فلان أنارته شعوب، ووارته الحبوب، واكتفى بسلفة الممات، من المقدمات؛ وما ظنك بالشلو الطريح، في ضنك الضريح، تحته البرزخ الموصود، وفوقه الجبل المنضود؛ انظر كيف هجر بابه المقصود، وجانبت جنابه الوفود، وأخلقت رباعه، وتفرقت أتباعه؛ ثم تشويه الحوب، أبشع من تشويه الشحوب؛ وويل للقوم البور، من بعثرة القبور:
ويا خسارة الأنفس الغاوية ** من بعد تلك الحفر الهاوية

وكل من خفت موازينه ** فأمه في بعثه هاويه

وليس يدري ويحه ماهيه ** نار على سكانها حاميه!

أعادنا الله من خلال يقضي جهلها بالشنار، وأفعال تفضي بأهلها إلى النار، بكرمه وإحسانه، وطوله وامتنانه.
الصنف الثالث من الرسائل المفاخرات:
وهي على أنواع منها: المفاخرة بين العلوم.
وهذه نسخة رسالة في المفاخرة بين العلوم، أنشأتها في شهور سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، لقاضي القضاة شيخ الإسلام، علامة الزمان، جلال الدين، عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام، بقية المجتهدين، أبي حفص عمر البلقيني الكناني، الشافعي، - أمتع الله تعالى المسلمين ببقائه.
ذكرت فيها نيفاً وسبعين علماً، ابتدائها بعلم اللغة، وختمتها بفن التاريخ؛ ذاكراً فخر كل علم على الذي قبله، محتجاً عليه بفضائل موجودة فيه دون الآخر؛ وجعلت مصب القول فيها إلى اشتماله على جميعها، وإحاطته بكلها، مع الإشارة إلى فضل والده، شيخ الإسلام، ومساهمته له في الفضل، على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى؛ وهي: الحمد لله الذي جعل العلم جلالاً تود جلائل الفضائل أن تكون له أتباعاً، وأطلق ألسنة الأقلام من جميل ثنائه بما أنطق به ألسنة العالم ليكون الحكم بما ثبت من مأثور فضله إجماعاً، وأجرى من قاموس فكره جدأول أنهار العلوم الزكية فنعش قلوباً ونزه أبصاراً وشنف أسماعاً.
أحمده على أن أفاض نتائج الأفكار على الأذهان السليمة لذي النظر الصحيح، وبث جياد الألسنة في ميدان الجدال فحاز قصب السبق منها كل لسان ذلق فصيح، وأشهد أم لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي قهرت بينات دلائله الملحد المعاند، وبهرت قواطع براهينه الألد الخصيم والجدل المكايد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أظهر من واضح الحجج الجلية ما سقط بحجيته دعوى المعارض، وأتى من فضل الخطاب بما أفحم به الخصوم فلم يستطع أشدهم في البلاغة شكيمة أن يأتي له بمناقض، صلى عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا من جليل المناقب بكل وصف جميل، واشتهرت في الوجود مفاخرهم فلم يحتج في إثباتها إلى إقامة دليل، صلاة يتمسك في دعوى الشرف بمتين حبلها، وتتفق أدلة العقل والنقل على القطع بعلو شأنها وتوفر فضلها.
وبعد، فلما كانت العلوم مشتركة في أصل التفصيل، متفقة الفضل في الجملة وإن تفاوتت في التفصيل، مسلما ًأصل الشرف فيها من غير منازع، مجمعاً على أنه لاشيء من العلم من حيث هو علم بضار ولاشيء من لجهل من حيث هو جهل بنافع، مع اختلافها في التفاضل باختلاف موضوعاتها، وتفاوتها في الشرف بحسب الحاجة إليها أو وثاقة حججها نفاسة غاياتها؛ عطس كل منها بأنف شامخ غير مسلم للآخر ولا مسالم، ومد إلى العلياء يد المطأولة فتنأول الثريا قاعداً غير قائم، وادعى كل منها أن بحره الطامي، فضله النامي، وجواده الطامح، وسماكه الرامح، زاعماً أن حسامه القاطع وغضبه القاضب، وقدحه المعلى وسهمه الصائب، ونجمه الساري وشهابه الثاقب، وأن نشر الثناء على مجامره موقوف، وخطيب المحامد بمنابره معروف، وفلك الفضل على قطبه دائر، وكل شرف عليه محبس وكل فخر عليه قاصر؛ فماس بعطفه ومال، وبسط في الكلام لسانه فقال وطال.
هذا: وإنها اجتمعت يوماً اجتماع معنى لا صورة، وقامت لها سوق بالبحث معروفة وعلى الجدال مقصورة، وتفاوضت بلسان الحال وتخاطبت، وتحاورت في دعوى الشرف وتجاوبت، وألمت بالمنافرة فتنافرت، وتسابقت في ميدان الافتخار فتفاخرت، وأخذ كل منها في نصرة مذهبه، وتحقيق مطلبه، بأنواع الحجج والاستدلالات، وإقامت البراهين والأمارات، وما يتوجه على ذلك من الأسئلة والاعترضات. فكان أول باديء بدأ منها بالكلام وفتح باب الجدال والخصام، علم اللغة فقال: قد علمتم معشر العلوم أني أعمكم نفعاً، وأوسعكم مجالاً وأكثركم جمعاً؛ على قطب فلكي تدور الدوائر، وبواسطتي تدرك المقاصد ويستعلم ما في الضمائر، وبدلا ليتعلم المعاني المفردات، ويتميز ما يدل على الذوات مما يدل على الأدوات، وتتبين دلالات العام والخاص، ويتعر ف ما يرشد إلى الأنواع والأجناس وما يختص بالأشخاص؛ على أن كلكم كل علي، ومحتاج في ترجمة مقصوده إلي؛ فلفظي المحكم وأقوالي الصحاح، وكلامي الجامع وسيف لساني المجرد ناهيك من سلاح، وفضلي المجمل لايحتاج إلى بيان. استأثر الله تعالى بتعليمي لآدم عليه السلام، وآثره بي معرفة على الملائكة فكان خصيصة له على الملائكة الكرام.
فلما انقضى قيله، وبانت للمستبين سبيله، ثاب إليه علم التصريف مبتدراً، ولنفسه ولسائر العلوم منتصراً، فقال: رويدك أيها المساجل، وعلى رسلك يا ذا المناضل؛ فقد ذل من ليس له ناصر، وحط قدر من ترفع على أبناء جنسه ولو عقدت عليه الخناصر، وما يجدي البازي بغير جناح، أو يغني الساعي إلى الحرب بغير سلاح؛ وأنى يطعن رمح بغير سنان، أو يقطع سيف لم يؤيد بقائم ولم تقبض عليه بنان؛ إنك وإن حويت فضلاً، وأعرقت أصلاً، وكنت للكلام نظاماً، وإلى بيان المقاصد إماماً، فأنت غير مستقل بنفسك، ولا قائم برأسك؛ بل أنا المتكفل بتأسيس مبانيك، والملتزم بتحرير ألفاظك وتقرير معانيك، بي تعرف أصول أبنية الكلمة في جميع أحوالها، وكيفية التصرف في أسمائها وأفعالها، وما يتصل بذلك من أحوال الحروف البسيطة وترتيبها، واختلاف مخارجها، وبيان تركيبها، والأصلي منها والمزيد، والمهموس والرخو والشديد؛ وتقديره، والصحيح والمعتل وتحريره، وكيفية التثنية والجمع، والفصل والوصل والابتداء والقطع، وأنواع الأبنية وتغيرها عند اللواحق، وكيفية تصريف الفعل عند تجرده عن العوائق، وأمثلة الألفاظ المفردة في الزنى والهيئة وما يختص من ذلك بالأسماء والأفعال، وتمييز الجامد منها والمشتق وأصناف الاشتقاق، وكيف هو على التفصيل والإجمال.
على أنك لو خليت ومجرد التعريف، وبيان المقاصد بالاصطلاح أو التوقيف، لكان علم الخط يقوم مقامك في الدلالة الحالية لدى الملتقى، ويترجح عليك ببعد المسافة مع طول البقا؛ مع ما فيه من زيادة ترتيب الأحوال، وضبط الأموال، وحفظ العلوم في الأدوار، واستمرارها على الأكوار، وانتقال الأخبار من زمان إلى زمان، وحملها سراً من مكان إلى مكان؛ بل ربما اكتفي عنك بالإشارة والتلويح، وقامت الكناية منها مقام التصريح.
فعندها غضب علم النحو واكفهر، وزمجر واشمخر، وقال: يا لله! استنت الفصال حتى القرعا، واستنترت البغاث فكان أشد ثلمة وأعظم صدعا، لقد ادعيت ما ليس لك ففاتك الحبور، ومن تشبع بما لم ينل فهو كلابس ثوبي زور؛ وهل أنت إلا بضعة مني؟، يسند إلي وتنقل عني، لم يزل علمك باباً من أبوابي، وجملتك داخلة في حسابي، حتى ميزك المازني فأفردك بالتصنيف، وتلاه ابن جني فتبعه في التأليف؛ واقتصر بن مالك منك في تعريفه على الصروري الراجب، وأحسن بك ابن الحاجب في شافيته فرفع عنك الحاجب، وأنت مع ذلك كله مطوي ضمن كتبي، نسبتك متصلة بنسبتي وحسبك لاحق بحسبي، أنا ملح الكلام، ومسك الختام، لا يستغني عني متكلم، ولا يليق جهلي بعالم ولا متعلم؛ بي تتبين أحوال الألفاظ المركبة في دلالتها على المقاصد، ويرتفع اللبس عن سامعها فيرجع من فهمها الصلة والعائد؛ فلو أتى المتكلم في لفظه بأجل معنى ولحن لذهبت حلاوته، وزالت طلاوته، وعيب على قائله وتغيرت دلالته، وقد كانت الخلفاء تحث على النحو وترشد إليه، وتحذر اللحن وتعاقب عليه:
وإذا طلبت من العلوم أجلها ** فأجلها عندي مقيم الألسن!

فبينما هو كذلك إذ برزت علوم المعاني والبيان والبديع جملة، وحملت عليه بصدق العزم في اللقاء حملة، وقالت: جعجعة رحاً من غير طحن، وتصويت رعد من غير مزن؛ لقد أتيت بغير معرب، وأعربت عن لحن ليس بمطرب، الحق أبلج، الباطل لجلج؛ إن الفوز لقد حنا، والوري لقدحنا؛ نحن لب العربية وخلاصتها، والمعترف لنا بالفضل عامتها وخاصتها؛ وهل أنت إلا شيء جرى عليك الاصطلاح، وساعدك الاستعمال فأمنت الاطراح؛ فلو اصطلح على نصب الفاعل ورفع المفعول لم يخل بالتفاهم في المقاصد، وها كلام العامة لذلك أقوم دليل وأعظم شاهد.
فقال علم الشعر: أراكم قد نسيتم فضلي الذي به فضلتم، وصرمتم حبلي الذي من أجله وصلتم؛ أنا حجة الأدب، وديوان العرب؛ علي تردون، وعني تصدرون؛ وإلي تنتسبون، وبي تشتهرون، مع ما اشتملت عليه من المدح الذي كم رفع وضعا، وجلب نفعا، ووصل قطعا، وجبر صدعا؛ والهجو الذي كم حط قدرا، وأخمد ذكرا، وجعل بين الرفيع والوضيع في حطيطة القدر نسباً وصهرا؛ إلى غير ذلك من أنواعي الشعرية التي شاع ذكرها، وأضواعي العطرية التي فاح نشرها؛ بل لا يكاد علم من العلوم الأدبية يستغني عن شواهدي، ولا يخرج في أصواله عن قوانيني وقواعدي حتى علم النثر الذي هو شقيقي في النسب، وعديلي في لسان العرب، لم يزل أهله يتطفلون علي في بيت يحلونه، ويقفون من بديع محاسني عند حد لا يتعدونه.
فقال علم القافية: إنك وإن تألق برق مباسمك، وطابت أيام مواسمك، فأنت موقوف على مقاصدي، ومغترف من روي مواردي؛ أنا عدة الشاعر، وعمدة الناثر، لا يستغني عني شعر ولا خطابة، ولا يستكنف عن الوقوف على أبوابي ذو ترسل ولا كتابة؛ طالما عثر الفحول في ميداني، وتشعبت عليهم طرقي فضلوا السبيل واختلفت عليهم المباني؛ فلم يفرقوا بين التكاوس والتراكب في التعارف، ولم يميزوا بين التدارك والتواتر والترادف.
فقال علم العروض: لقد أسمعت القول في الدعوى من غير توجيه فدخل عليك الدخيل، وأوقعك الوصل دون تأسيس في هوة النقص: فهل إلى خروج من سبيل؟؛ أنا معيار القريض وميزانه، وعلي تبني قواعده وأركانه؛ لم يزل الشعر في علو رتبته بفضلي معترفاً، وبأسبابي متعلقاً؛ بميزاتي محررة، وأجزاؤه بقسطاس تفاعيلي مقدرة، وبفواصلي متصلة، وبأوتادي مرتبطة غير منفصلة.
فقال علم الموسيقى: لقد أسرفت في الافتخار فضللت الطريق وبنت عنها، وورطت نفسك فيما لا فائدة فيه فلزمت دائرة لا تنفك عنها، وأتيت من طويل الكلام بما لا طائل تحته فثقل قولا، وجئت من بسيط القول بما لو اقتصرت منه على المتقارب لكان بك أولى؛ فأنت بين ذي طبع وزان لا يحتاج إلى معيارك في نظم قريضه، وآخر نبت طباعه عن الوزن فلم ينتفع من علمك بضربه ولا عروضه؛ فإذا لا فائدة فيك ولا حاجة إليك، ولا عبرة بك ولا معول عليك؛ وكفى بك هضماً، ونقيصة وذماً، واستدلالاً على دحض حجتك، وضعف أدلتك، قول ابن حجاج:
مستفعلن فاعلن فعول ** مسائل كلها فضول

قد كان شعر الورى صحيحاً ** من قبل أن يخلق الخليل!

على أنه إن ثبتت لك فائدة، وعاد منك على الشعر أوالشعراء عائدة، فإنما تفاعيلك مقدمة لألحاني، وأوزانك وسيلة إلى أوزاني؛ نعم أنا غذاء الأرواح، وقاعدة عمود الأفراح، والمتكفل ببسط النفوس وقبضها، والقائم من تعديلها وتقويتها بنقلها وفرضها؛ أحرك النفس عن مبدئها فيحدث لها الفكر في العواقب وتزايد الهموم والندم؛ فتارة أستعمل في الأفراح وزوال الكروب، وتارة في علاج المرضى وأخرى في ميادين الحروب، وآونة في محل الأحزان واجتماع المآتم، ومرة يستعملني قوم في بيوت العبادات فأبعثهم على طلب الطاعات واجتناب المحارم؛ وآتي من غريب الألحان، بما يشبع به الجائع ويروي به الظمآن، ويأنس به المستوحش وينشط به الكسلان، وتدنو لسماعه السباع، ويعنو له بعد الشدة الشجاع، مع ما يتفرع عني من علم الآلات الروحانية التي تنعش الأرواح، وتجلب الأفراح، وتنقي الأتراح، وتؤثر في البخيل السماح، وتفعل في الألباب مللا تفعل في اللبات بيض الصفاح.
فقال علم الطب: لقد أضعت الزمان في اللهو، وملت مع الأريحية فماس بك العجب وزاد بك الزهو، ودا خلك الطيش فقنعت بالإطراب، وعنيت بمعرفة اللحن ففاتك الإعراب؛ تذكر العشاق أحوال النوى فيسلمها الهوى إلى الهوان، وتتنقل في نواحي الإيقاع تنقل الهائم فتمسي في حجاز وتصبح في أصبهان؛ وأنت وإن ادعيت أنك العلم الروحاني، والمستولي بتحريك الطبائع الأربع على النوع الإنساني وغير الإنساني، فأنت غير مستغن عني، ولا فنك في الحقيقة منفك عن فني؛ بل قواعدك مرتبة على قواعدي، وفوائدك مستفادة من فوائدي، وأهل صناعتك يتطفلون في معرفة الملائم والمنافي على ساقط لباب موائدي؛ وأنى تنبسط بك الروح مع وجود السقم، أو يستريح إليك القلب مع شدة مقاساة الألم؟؛ بل أنا قوام الأبدان، وغاية ملاك الإنسان؛ بي تحفظ صحة الأجسام، وتتمكن النفس من استكمال قوتيها النظرية والعملية بواسطة زوال الأسقام وانتفاء الآلام، مع ما يتضح بالنظر في التشريح الذي هو أحد أنواعي من سر قوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}، وما يظهر من حال الصحة والمرض وسر الموت من أنه تعالى بدأ الخلق أول مرة وإليه يحشرون مع ما يلتحق بي من علم خواص العقاقير الغربية، والأحجار التي تؤثر بتمزيجها الصناعي التأثير العجيبة، وتأتي من نوادر الأفعال بالأعمال الغريبة؛ على أني لست بمختص في الحقيقة ببدن الإنسان، ولا قاصر على نوع من أنواع الحيوان، وإنما أفردت بنوع البشر اهتماماً بشأنه، وتنبيهاً على جلالة قدره وعلو مكانه.
ثم ألحق بالإنسان في الاعتناء به الخيول فاشتق لها مني، علم البيطرة، وتلاها في الاعتناء جوارح الطيور لاهتمام الملوك بشأنها فاستنبط لها من أجزائي علم البيزرة، وأهمل ما سوى ذلك من جنس الحيوان فلم يعتن بأمره ولم يهتم له بشان.
فقال علم القيافة: لقد ارتقيت مرتقى صعباً، وولجت مولجاً صلباً، وأتيت من مشكلات القضايا بما ضاقت مطالبه، وعرضت نفسك لمغالبة الموت والموت لا شيء يغالبه، واقتصرت في تشريحك الأعضاء على ذكر منافعها وصفاتها، وأضربت عما تدل عليه بصورها وكيفياتها؛ أين أن من إلحاق الابن بالأب بالصفات المتاثلة، والحكم بثبوت النسب بدلائل الأعضاء كما يحكم بالبينة العادلة؟؛ فهذه هي الفضيلة التي لاتساوى، والمنقبة التي لا تعادلو لا تناوى؛ وكفاك لذلك شاهداً، وعلى ثبوته في الشريعة المطهرة مساعداً؛ وأنه لا يعتور ذلك معارضة ولا نقض، استبشار النبي صلى الله عليه وسلم بقول مذحج المدلجي: إن هذه الأقدام بعضها من بعض.
فقال علم قص الأثر: نعم إن شأنك لغريب، وإن اجتهادك لمصيب؛ غير أني أنا أغرب منك شأنا، وأدق في الادراك معنى؛ إذ أنت إنما تلحق المحقق بالمشاهدة بمثله، وتقيس فرعاً على أصل ثم تلحق الفرع بأصله؛ وأنا فأدرك المؤثر من الأثر، واستدل على الغائب بما يظهر من اللوائح في الرمل والمدر؛ وربما ميزت أثر البعيد الشارد من المراتع، وفرقت بالنظر فيه بين الصحيح والظالع، فأدركت من الأمر الخفي ما تدركه أنت من الظاهر، وقضيت على الغائب بما تقضي به على الحاضر.
فقال علم غضون الكف والجبهة: ما الذي أتيت به من الغريب، أو أظهرته بعلمك من العجيب؟؛ فلو ابتليت بأرض صلبة لوقفت آمالك، أو محت الريح معالم الأثر لبطلت أعمالك، أو ولج من تقفي أثره الماء لفات حدسك الصائب، أو جعل الماشي مقدم نعله مؤخره لقلت: إن الذاهب قادم والقادم ذاهب؛ لكن أنا كاشف الأسرار الخفية، والمستدل على لوازم الإنسان بما ركب فيه من الدلائل الخلقية؛ أستخرج من أسارير الجبهة وغضون الكف أموراً قد أرشدت الحكمة الإلهية إليها، وجعلت تلك العلامة في الإنسان دلالة عليها.
فقال علم الكف: إنه ليس في الاستدلال على الشيء بلازمه أمر مستغرب، ولا يقال فيه: هذا من ذاك أعجب، وإنما الشأن أن يقع الاستدلال على الشيء بما هو أجنبي منه، وخارج عنه، كما أستدل أنا بالخطوط الموجودة في كتف الذبيحة على الحوادث الغريبة، والأسرار العجيبة مما أجرى الله به العادة في ذلك، وجعله علامة دالة علىما هنالك.
فقال علم خط الرمل: لقد علمت أنك لست بمحقق لما أنت له متوسم، ولا واثق بالإصابة فيما أنت عنه تترجم؛ وغايتك الوقوف مع التجارب، والرجوع فيما تحأوله إلى التقارب، مع ما أنت عليه من الرفض والإهمال، وما رميت به من القطيعة وقلة الاستعمال؛ أما أنا ففارس هذا الميدان، ومالك زمام هذا الشان؛ فكم من ضمير أبرزته، وأمر خفي أظهرته، ومكان عينته فوافق، وأمد قدرته فطابق؛ على أنه ليس لك أصل ترجع إليه، ولا دليل تعتمد عليه؛ فأنا أثبت منك قواعد، وأوضح عند الاعتبار في الدلالة على المقاصد؛ فإن عدوت طورك، أو جزت في الاحتجاج خصمك، فمداك، أنه كان نبي يخط فمن وافق خطه فذاك.
فقال علم تعبير الرؤيا: إنك وإن أظهرت السرائر، وأبرزت الضمائر، فإن أمرك موقوف في حدسك على الدلالة الحالية، ومقصور في تخمينك على الأمور الاحتمالية؛ أين أنت مني حين أعبر عما شاهدته النفس في النوم من عالم الغيب؟ وكيف أكشف عنه الحجب بالتأويل فيقع كفلق الصبح من غير شك ولا ريب، فأخبر بحوادث تقع في العالم قبل وجودها، وآتي من حقائق النذارة والبشارة بما ينبه على التحذير من نحوسها والترقب لموافاة سعودها.
فقال أحكام النجوم: حقيق ماأولت، وصحيح ما عنه عبرت وعليه عولت؛ إلا أنك قاصر على وقائع مخصوصة ترشد إليها، وأمور محدودة تنبه عليها؛ على أنه ربما نشأت الرؤيا عن فكرة وقعت في اليقظة فاتصلت بالمنام، أو حدثت عن سوء مزاج أو رداءة مطعم ونحو ذلك فكانت أضغاث أحلام؛ أما أنا فإني أدل بما أجراه الله تعالى من العادة، على الحوادث العامة مصاحباً لمقتضيات الإرادة، ليظهر ما في الحكمة الإلهية من قضايا التدبير، ويتبين ما اشتملت عليه الأفلاك العلوية من تقدير الترتيب وترتيب التقدير، مع ما يترتب على ذلك من الأعمال العجيبة، والأحوال الغريبة، التي تبهر العقول، ويمتنع إليها من غير طريقي الوصول: من علم السحر على الإطلاق، وعلم الطلسمات الغريبة وعلم الأوفاق، وكذلك علم النيرنجيات وعلم السيمياء الاخذ بالأحداق.
فقال علم الهيئة: مالك ولأباطيل تنمقها، وأكاذيب تزخرفها وتزبرقها وأماثيل يعتمدها المعتمد فتخيب، وأقاويل تارة تخطئ وتارة تصيب؛ ولقد وردت الشريعة المطهرة بالنهي عن اعتبارك، وجاءت السنة الغراء بمحو أخبارك وإعفاء آثارك؛ وناهيك بفساد هذا الاعتقاد ورد هذا المذهب، ما ثبت في الصحيح من أنه من قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب؛ على أنك في الحقيقة نوع من أنواعي، معدود من جندي ومحسوب من أتباعي؛ نعم أنا القائم من دليل الاعتبار في القدرة بتمام الفرض، والقائد بزمام العقل إلى التفكر في خلق السموات والأرض؛ عني يتفرع علم الزيجات والتقاويم الذي به يعرف موضع كل واحد من الكواكب السيارة ومدة إقامتها، وزمن تشريقها وتغريبها ومقدار رجوعها واستقامتها، وحال ظهورها واختفائها في كل زمان، وما يتصل بذلك من الاتصال والانفصال والخسوف والكسوف واختصاص ذلك لمكان دون مكان.
فقال علم كيفية الأرصاد: ما علم الزيجات والتقاويم الذي تقدمه في الذكر علي، وتؤثره في الفضل بما لدي؛ إذ بي تتعرف كيفية تحصيل مقادير الحركات الفلكية، والتوصل إليها بالآلات الرصدية، التي عليها يترتب علم الزيجات، ويعرف في التقويم الاتصالات والانفصالات والامتزاجات، مع ما يلتحق بي من علم الكرة الذي منه تعرف كيفية اتخاذ الآلات الشعاعية، ويتوصل به إلى استخراج المطالب الفلكية.
فقال علم المواقيت: كيف وأنا سيد علوم الهيئة وزعيمها، وشريفها في الشريعة وكريمها؛ بي تعرف أوقات العبادت، وتستخرج جهة القبلة بل سائر الجهات، وتعلم أحوال البلدان ومحلها من المعمور في الطول والعرض، ومقادير أبعادها وانحراف بعضها عن بعض، مع ما ينخرط في هذا السلك من معرفة السماوات وارتفاع الكواكب، ومطالعها من أجزاء البروج والطالع منها والغارب، وغير ذلك من الشعاعات المخروطة، والظلال القائمة والمبسوطة، إلى غير ذلك مما يلتحق بي، وينسب إلي ويتعلق بسببي: من علم الآلات الظلية التي تعرف بها ساعات النهار، ويظهر منها الماضي والباقي بأقرب ملتمس وألطف اعتبار، من نحو الرخامات القائمات، والمبسوطات منها والمائلات.
فقال علم الهندسة: إن فضلك لمشهور، ومقامك في الشرف غير منكور؛ إلا أن آلاتك بي مقدرة، وأشكالك بأوضاعي محررة؛ فأنا إمامك الذي به تقتدي، ونجمك الذي به تهتدي؛ بل جميع علوم الهيئة في الحقيقة موقوفة علي، وراجعة في قواعدها إلي؛ لولاي لم يعرف السطح والكرة، ولم يميز بين الخطوط والقسي والدوائر المقدرة، مع ما ينشأ عني، ويستملى من صحابي ويقتبس مني، من أحوال المقادير ولواحقها، ومعرفة ظواهرها الواضحة ودقائقها، وأوضاع بعضها عند بعض ونسبها، وخواص أشكالها والطرق إلى عمل ما سبيله أن يعمل لها، واستخراج ما يحتاج إلى استخراجه بالبراهين اليقينية القاطعة، وإظهارها إلى الحس بالأشكال البينة والحدود الجامعة المانعة.
فقال علم عقود الأبنية: نعم، إلا أني أنا أجل مقاصدك، وأعذب مواردك، ونور عيونك، وعروس فنونك؛ مني يستفاد بناء الحصون والأسوار، ويتعرف شق الأقنية وحفر الأنهار، وعمارة المدن عقد القواصر، وسد البثوق وبناء القناطر، وتنضيد المساكن ووضع المنازل، ونصب الاشجار وترتيب الرياض ذوات الخمائل.
فقال علم جر الأثقال: صدقت ولكني أنا أساس مبانيك وقاعدة سنادك، وحامل أثقالك وعمود اعتمادك؛ بي تعرف كيفية نقل الثقل العظيم بالقوة اليسيرة، حتى تنقل مائة ألف رطل بقوة خمسمائة وذلك من الأسرار النفسية والأعمال الخطيرة.
فقال علم مراكز الأثقال: إلا محتاج إلي في أعمالك، ومتوقف علي في جميع أحوالك، من حيث استخراج مراكز الأجسام المحمولة، وبيان معادلة الجسم العظيم بما هو دونه لتوسط المسافة بالآل المعمولة.
فقال علم المساحة: أراك قد غفلت عن معرفة المقادير والمسافات التي هي مقدمة عليك في وضع المباني، ومنفردة عنك بكثير من المعاني؛ من أنواع الخراج والزراعات، وتقدير الرساتيق والبياعات، وكيفية ذرع المثلثات، والمربعات، والمدورات، والمستطيلات، وغير ذلك من دقائق الأعمال، وإدراك كميات المقادير على التفصيل والإجمال. فقال علم الفلاحة فإذا قد اعترفت أنك من جملة لواحقي، مندرج في حقوقي وداخل تحت مرفقي؛ فأنا في الحقيقة المقصود منك في الوضع بالقياس، والمتحد بك دون غيري من غير التباس، مع ما أنا عليه من معرفة كيفية تدبير النبات من بدء كونه إلى تمام تدبيره، وتنمية الحبوب والثمار بإصلاح الأرض وما تخللها من المعفنات كالسماد وغيره، وما أبديه من اللطائف في إيجاد بعض الفواكه في غير فصله، وتركيب بعض الأشجار على بعض واستخراج بعضها من غير أصله.
فقال علم إنباط المياه: إلا أني أنا بداية عملك، وغاية منتهى أملك؛ لا يتم لك أمر بدوني، ولا تنبت لك خضراء ما لم تسق من بئاري وعيوني؛ فأنا الكفيل بإحياء الأرض الميتة وإفلاحها، والقائم بتلطيف مزاجها وإصلاحها.
فقال علم المناظر: ما الذي تجدي أنت وطرفي عنك مرتد، ونظري إليك غير ممتد؛ وأنى تستطيع مياهك الترقي من الأغوار إلى النجود، وتتنقل عيونك وأنهارك بين الهبوط والصعود، إذا لم أكن لك ملاحظاً، وعلى الاعتناء بأمرك محافظاً، مع ما أشتمل عليه غير ذلك من تحقيق المبصرات في القرب والبعد على اختلاف معانيها، وما يغلط فيه البصر كالأشجار القائمة على شطوط المياه حيث ترى وأسافلها أعاليها.
فقال علم المرايا المحرقة: إنك وإن دققت النظر، وحققت كل ما وقع عليه حاسة البصر، فأنا مقصدك الأعظم، ومهمك المقدم؛ طالما أحرقت القلاع بشعاعي، وحصنت الجيوش بدفاعي، وقمت بما لم يقم به الجيش العرمرم والعسكر الجرار، وأغنيت مع انفرادي عن كثرة الأعوان ومعاضدة الأنصار.
فقال علم الآلات الحربية: وإن حدك لكليل، وإن جداك لقليل، وإن المستنصر بك لذليل؛ وماذا عسى تصل في عسى تصل في الإحراق إليه، أو تسلط في الحروب عليه؟؛ أنا باع الحرب المديد، والمحصن من كل بأس شديد، والتالي بلسان الصدق على الأعداء: {قل جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد}. فأنا نفس المقصود وعين المراد، وعمود الحق وقاعدة الجهاد.
فقال علم الكيماء: ما أنت والقتال، ومواقعة الحروب وقوارع النزال؛ وهل أنت إلا آلة من الآلات، لا تستقل بنفسك في حالة من الحالات؛ وأنى يغني السلاح عن الجبان مع خور الطباع، أو يحتاج إليه البطل الصنديد والمجرب الشجاع؛ فالعبرة بالمقاتل، لا بالذوابل، والعمدة على الرجال، لا ببوارق السيوف عند النزال؛ وبكل حال فالعمدة في الحروب وجمع العساكر على النقدين دون ما عداهما، والاستناد إلى الذهب والفضة بخلاف ما سواهما؛ وإلي هذا الحديث يساق وعلي فيه يعتمد، وعني يؤخذ وإلي في مثله يستند، أحأول بحسن التدبير، ما طبخته الطبيعة على ممر الدهور، فآتي بمثله في الزمن القريب، وأجانس بين المعادن في ممازجتها فيظهر عنها كل معنى غريب، وأبرز من خصائص الإكسير ما يقلب المريخ قمراً من غير لبس، ويحيل الزهرة شمساً وناهيك بإحالة الزهرة إلى الشمس فصاحبي أبداً عزيز المنال، شريف النفس عن الطلب عفيف اللسان عن السؤال.
فقال علم الحساب المفتوح: إنك وإن دفعت عنا، وجلبت غنى، فأموالك الجمة، وحواصلك الضخمة، محتاجة إلى حسابي، غير غنية عن كتابي؛ أنا جامع الأموال وضابط أصولها، والمتكفل بحفظ جملتها وتفصيلها، مع احتياج كثير من العلوم إلي في الضرب والقسمة والإسقاط. قد أخذت من علم الارتماطيقي الذي هو أصل علوم الحساب بجوابنه، وتعلقت منه بأسهل طرقه وأقرب مذاهبة؛ وناهيك بشرف قدري، ورفعة ذكري، قولأبي محمد الحريري في بعض مقاماته، منبهاً على شرف قلمي وسني حالاته: ولولا قلم الحساب لأودت ثمرة الاكتساب، ولا تصل التغابن إلى يوم الحساب.
فقال علم حساب التخت والميل: مه! فما أنت إلا علم العامة في الأسواق، تدور بين الكافة على العموم وتتداول بينهم على الإطلاق؛ تكاد أن تكون بديهياً حتى للأطفال، وضرورياً للنساء والعبيد في جميع الأحوال؛ يتسع عليك مجال الضرب فتقصر عنه همتك المقصرة، وتتشعب عليك مدارك القسمة فتأتي بها على التقريب غير محررة؛ أين أنت من سعة باعي، وامتداد ذراعي، وتحرير أوضاعي؟؛ لا يعتمد أهل الهيئة في مساحة الأفلاك والكواكب غير حقائق أموري، ولا يعولون فيها- على سعة فضائها- إلا على صحاحي وكسوري.
فقال علم حساب الخطأين: ما لي ولعلم لا يوصل إلى المقصود إلا بعد عمل طويل؟ ويحتاج صاحبه مع زيادة العناء إلى استصحاب تخت وميل، وقد قيل: كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فجداه قاصر ونفعه قليل؛ وعلى أن غيرك يشارك فيما أنت فيه ويوصل إلى مقصودك بطريق لا يدخله الغلط ولا يعتريه؛ وإنما الشأن في استكشاف غامض أو إظهار غريب، ولا أعجب من أن تصيب إخراج المجهول من الأعداد بخطأين فيقال: أتى بخطأين وهو مصيب.
فقال علم الجبر والمقابلة: حسبك! فإنما أنت في استخراج المجهولات كنقطة من قطر، أو نغبة من بحر؛ تقتصر منها بطرقك القاصرة وأعمالك الناكبة، على ما أمكن صيرورته من العدد في أربعة أعدادٍ متناسبة؛ نعم أنا أبو عذرتها، وابن بجدتها، وأخو نجدتها؛ استخرج جميع المجهولات، من مسائل المعاملات، والوصايا والتركات، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، وينحو هذا النحو ويسري هذا المسرى، مما يدخل تحت الأموال والجذور، والأعداد المطلقة من الصحاح والكسور.
فقال علم حساب الدرهم والدينار: مالك ولا دعاء التعميم في استخراج المجهولات وكشف الغوامض؟ وإنما أنت قاصر على استعلام المجهولات العديدة المعلومة العوارض، دون ما تزيد عدته على المعادلات الجبرية، فقد فاتك حينئذ الدعاوى الحصرية؛ لكني أنا كاشف هذه الحقائق، ومبين سبلها بألطف الطرائق؛ فبي إليها يتوصل، وعلى قواعد لاستخراج مقاصدها يجمل ويفصل.
فقال علم حساب الدور والوصايا: إن استخراج المجهولات وإن عظم نفعاً، وحسن وضعاً، فأنا أعظم منه فائدة، وأجل منه عائدة؛ أبين مقدار ما يتعلق بالدور من الوصايا، حتى يتضح لمن يتأمل، وأقطع الدور فتعود المسألة من أظهر القضايا، ولولا ذلك لدار أو تسلسل.
فقال علم الفقه: وهل أنت إلا نبذة من الوصايا التي هي بارقة من بوارقي، تتعلق بأطنابي وتتدخل تحت سرادقي؛ بي تتميز معالم الأحكام، ويتبين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، ويتعرف ما يتقرب به إلى الله تعالى من العبادات وسائر أنواع التكاليف الشرعية العملية مما تدعو إليه الضرورات وتجري به العادات؛ فأنا إمام العلوم الذي به يقتضي، وعميدها الذي عليه يعتمد ونجمها الذي به يهتدي؛ فلولا إرشادي لضل سعيي المكلفين، ولأمسوا في ديجاء مدلهمة فأصبحوا عن ركائب الخير مكلفين. وناهيك أن من جملة أفرادي، وآحاد أعدادي: - علم الفرائض الذي حض الشارع على تعلمه وتعليمه، وأخبر بأنه نصف العلم منبهاً على تعظيم شأنه وتفخيمه، وبالغ في إثبات قواعده وإحكام أسه، فقال: إن الله لم يكل قسمة مواريثكم إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل بل تولاها فقسهما بنفسه.
فقال علم أصول الفقه: إن مقالك لعال، وإن جيدك لحال؛ غير أني أنا التكفل بتقرير أصولك، وتوجيه المسائل الواقعة في خلال أبوابك وفصولك؛ بي تعرف مطالب الأحكام الشرعية العملية وطرق استنباطها، ومواد حججها واستخراجها بدقيق النظر وتحقسق مناطها؛ فبأصولي فروعك مقررة، وبمحاسن استدلالي حججك منقحة محررة؛ قد مهدت طرقك حتى زال عنها الإلباس، وبنيت على أعظم الأصول فروعك فاسندتها للكتاب والسنة والإجماع والقياس.
فقال علم الجدل: قد علمت أن الدليل لا يقوم برأسه، ولا يستقل بنفسه، بل لا بد في تقريره من النظر في معرفة كيفية الاستدلال، والطريق الموصل إلى المطلوب على التفصيل والإجمال؛ وأنا المتكفل بذلك، والموصل بكشف حقائق البحث إلى هذه المدارك؛ بي تعرف كيفية تقرير الحجج الشرعية، وقوادح الأدلة وترتيب النكت الخلافية؛ فموضوعك علي محمول، ونظرك إلى نظري بكل حال موكول.
فقال علم المنطق: خفض عليك! فهل أنت إلا نوع من قياساتي المنطقية أفردت بالتصنيف، وخصصت بالمباحث الدينية فخالطت أصول الفقه في التأليف؟؛ فأنت إذاً فرد من أفرادي، وواحد من أعدادي، مع ما اشتمل عليه سواك من القياسات البرهانية القاطعة في المناظرات، والقياسات الخطابية والبلاغات النافعة في مخاطبات الجمهور على سبيل المخاصمات والمساورات؛ كذلك حال القياسات الشعرية، وكيف يستعمل التشبيه المفيد للتخيل الموجب للانفعالات النفسانية: كالإغراء والتحذير، والترغيب والترهيب والتعظيم والتحقير، وغيره ذلك من معرفة الألفاظ والمعاني المفردة من حيث هي عامة كلية، وتركيب المعاني المفردة بالنسبة إلى الإيجابية والسلبية؛ تعصم مراعاتي الفكر عن الخطأ فلا يزل، ويهديه سواء السبيل فلا يحيد الصراط السوي ولا يضل، وأسري في جميع المعقولات فأتصرف فيما يدق منها ويجل.
فقال علم دراية الحديث: قد علمت بما ثبتت به الأدلة بالتلويح والتصريح، أنه لا مجال للعقل في تحسين ولا تقبيح؛ وحينئذٍ فلا بد من نص شرعي تعتمد عليه، وتستند في مقدماتك إليه؛ ولا أقوى حجة، وأوضح محجة، من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لاينطق عن الهوى إذا تكلم؛ فإذا استندت إلى نصوصه، واعتمدت عليه في عمومه وخصوصه، فقد حسن منك المقدم والتالي، وكانت مقدماتك في البحث أمضى من المرهفات ونتائجك أنفع من العوالي؛ وقد تحققت أني إمام هذا المقام، ومالك قياد هذا الزمام.
فقال علم رواية الحديث: لقد ذكرت من الصحيح المتفق عليه بما لا طعن فيه لمريب، وتعلقت من النبوة بأوثق سبب فأتيت بكل لفظ حسن ومعنى غريب؛ إلا أن الدراية، موقوفة على الرواية؛ وكيف يقع نظر الناظر في حديث قبل وصوله إليه، أو يتأتى العلم بمعناه قبل الوقوف عليه؟؛ وهل يثبت فرع على غير أصل في مقتضى القياس، أو يرقى من غير سلم أو يبنى على غير أساس؟؛ فعلى المحدث تقديم العلم بالرواية بشرطها، ومعرفة أقواله صلى الله عليه وسلم بالسماع المتصل وتحريرها وضبطها.
فقال علم التفسير: قد تبين لدى العلماء بالشريعة أن حكم الكتاب والسنة واحد، وإن اختلفت في الأسماء فلم تختلف في المقاصد؛ إلا أنهما وإن اتفقا في الدلالة والإرشاد، فقد اختص الكتاب في النقل بالتواتر وجاء أكثر السنة بالآحاد.
فقال علم القراآت: إلا أنه لا ينبغي للمفسر أن يقدم على التفسير ما لم يكن بقراءة السبع والشاذ عالماً، وبلغاتها عارفاً وللنظر في معانيها ملازماً؛ مع ما يلتحق بذلك من علم قوانين القراءة المتعلق من المصاحف بخطها، والأشكال والعلامات المتكفلة بتحريرها وضبطها.
فقال علم النواميس: وهو العلم بمتعلقات النبوة: إنك لفرع من فروع الكتاب المبين، وما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين؛ وإلي النظر في أحوال النبوة وحقيقتها، ومسيس الحاجة إليها في بيان الشريعة وطريقتها، والفرق بين النبوة الحقة، والدعاوى الباطلة غير المحقة، ومعرفة المعجزات المختصة بالأنبياء والرسل عليهم السلام، والكرامات الصادرة عن الصديقين الأبرار والأولياء الكرام؛ فأنا المقدم على سائر العلوم الشرعية، وإمام الأصلية منها والفرعية.
فقال العلم الإلهي: لقد تحققت أن اللازم المحتم، والواجب تقديمه على كل مقدم، العلم بمعرفة الله تعالى والطريق الموصل إليها، وإثبات صفاته المقدسة وما يجب لها ويستحيل عليها، وأنه الواجب الوجود لذاته، وباعث الرسل لإقامة الحجة على خلقه بمحكم آياته؛ وأنا الزعيم بإقامة الأدلة على ذلك من المعقول والمنقول، والمتكفل بتصحيح مقدماته البرهانية بتحرير المقدم والتالي والموضوع والمحمول.
فقال علم أصول الدين: فحينئذٍ قد فزت من جمعكما بالشرفين، وجمع لي منكما الفضل بطرفيه فصرت بكما معلم الطرفين، وميزت بين صحيح الاعتقاد وفاسده فكان لي منهما أحسن الاختيارين، وبينت طريق الحق لسالكها فكنت سبباً للفوز والنجاة في الدارين؛ فأنا المقصود للإنسان بالذات في كمال ذاته، وكل علم يستمد مني في مبادئه ويفتقر إلي في مقدماته.
فقال علم التصوف: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، إذ كان كل امريء بما عمل مجازى وبما كسب رهيناً؛ إنه يجب على كل من كان بمعتقد الحق جازماً، أن يكون عن دار الغرور متجافياً ولأعمال البر ملازماً؛ فإنما الدنيا مزرعة للآخرة، إن حصلت النجاة فتلك التجارة الرابحة وإن كانت الأخرى فتلك إذاً كرة خاسرة؛ فمن لزم طريقتي في الإعراض عن الدنيا والزهد فيها سلم، ومن اغتر بزخرفها الفاني فقد خاب في القيامة وندم.
فلما كثرت الدعاوى والمعارضات، وتتابعت الحجج والمناقضات، نهض علم السياسة قائما، وقصد حسم مادة الجدال وطالما، وقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، وسائسها الكافي وحاكمها المهذب؛ لقد ذكر كل منكم من فضله ما يشوق السامع، وأظهر من جليل قدره ما تنقطع دونه المطامع، وأتى من واضح كلامه بما لا يحتاج في إثباته إلى دليل ظني ولا برهان قاطع؛ غير أنه لايليق بالمنصف أن يتخطى قدره المحدود ولا يتعدى جزءه المقسوم، ولكل أحد حد يقف عنده وما منا إلا له مقام معلوم؛ فلو سلك كل منكم سبيل المعدلة، وأنصف من نفسه فوقف عند ما حد له، لكان به أليق، ولمقام العلم أرفق.
فقال علم تدبير المنزل: لقد تحريت الصواب، ونطقت بالحكمة وفصل الخطاب؛ لكنه لابد لكم من حبر عالم، وإمام حاكم، يكون لشملكم جامعاً، ولموقع الشك في محل التفاضل بينكم رافعاً، محيط من كل علم بمقصوده ومراده، عارف بما تشمل عليه مبادئه من حده وموضوعه وفائدته واستمداده، ليبلغ به من الفضل منتهاه، ويقف به من الشرف عند حد لا يتعداه؛ فلا يدعي مدع بغير مستحق، ولا يطالب طالب ما ليس له بحق؛ إلا أن المحيط بكلكم علماً، والقائم بجميعكم فهماً، أعز من الجوهر الفرد والكبريت الأحمر، وأقل وجوداً من بيض الأنوق بل بيض الأنوق في الوجدان أكثر.
فقال علم الفراسة: على الخبير سقطت، وبابن بجدتها حططت أنا بذلكم زعيم، وبمظنته عليم؛ فللعلم عرف ينم على صاحبه، وتلوح عليه بوارقه وإن أكنه بين جوانبه؛ فحامل المسك لا تخفى ريحه على غير ذي زكام، والنهار لا يخفى ضوءه على غير ذي بصر وإن تسترت شمسه بأذيال الغمام؛ ولقد تصفحت وجوه العلماء الكاملة، الذين طواياهم على أجمل العلوم منطوية وعلى تفاصيلها مشتملة، وسبرت وقسمت، وتفرست وتوسمت، فلم أجد من يليق لهذا المقام، ويصلح لقطع الجدال والخصام، ويعرف بلغة كل علم فيجيب بلسانه، ويحكم فلا ينقض حكمه غيره لانحطاطه عن بلوغ مكانه، إلا البحر الزاخر، والفاضل الذي لا يعلم لفضله أول ولا يدرك لمداه آخر؛ حبر الأمة، وعلامة الأئمة، وناصر السنة وحاميها، وقامع البدعة وقاميها، نجل شيخ الإسلام، وخلاصة غرر الأيام، جلال الدين، بقية المجتهدين، أبو الفضل عبد الرحمن البلقيني الشافعي، الناظر في الحكم العزيز بالديار المصرية، وسائر الممالك الإسلامية وما أضيف إلى ذلك من الوظائف الدينية، لا زالت فواضل الفضائل معروفة: فهو العالم الذي إذا قال لا يعارض، والحاكم الذي إذا حكم لا يناقض، والإمام الذي لا يتخلل اجتهاده خلل، والمناظر الذي ما حأول قطع خصم إلا كان لسانه أمضى من السيف أذى يقال: سبق السيف العذل:
إذا قال بذ القائلين ولم يدع ** لملتمس في القول جدا ولا هزل

إن تكلم في الفقه فكأنما بلسان الشافعي تكلم، والربيع عنه يروي والمزني منه يتعلم، أو خاض في أصول الفقه، قال الغزالي: هذا هو الإمام باتفاق، وقطع السيف الآمدي بأنه المقدم في هذا الفن على الإطلاق، أو جرى في التفسير، قال الواحدي: هذا هو العالم الأوحد وأعطاه ابن عطية صفقة يده بأن مثله في التفسير لا يوجد، واعترف له صاحب الكشاف بالكشف عن الغوامض، وقال الإمام فخر الدين: هذه مفاتيح الغيب وأسرار التنزيل فارتفع الخلاف واندفع المعارض، أو أخذ في القراءات والرسم أزرى بأبي عمرو الداني، وعدا شأو الشاطبي في الرائية وتقدمه في حرز الأماني، أو تحدث في الحديث شهد له السفيانان بعلو الرتبة في الرواية، واعترف له ابن معين بالتبريز والتقدم في الدراية، وهتف الخطيب البغدادي بذكره على المنابر، وقال ابن الصلاح: لمثل هذه الفوائد تتعين الرحلة وفي تحصيلها تنفذ المحابر، أو أبدى في أصول الدين نظراً تعلق منه أبو الحسن الأشعري بأوفى زمام، وسد باب الكلام على المعتزلة حتى يقول عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ليتنا لم نفتح باباً في الكلام، أو دقق النظر في المنطلق بهر الأبهري في مناظرته، وكتب الكاتبي على نفسه وثيقةً بالعجز عن مقاومته، أو ألم بالجدل رمى الأموري نفسه بين يديه، وجعل العميدي عمدته في آداب البحث عليه، أو بسط في اللغة لسانه اعترف له ابن سيده بالسيادة، وأقر بالعجز لديه الجوهري وجلس ابن فارس بين يديه مجلس الاستفادة، أو نحا إلى النحو والتصريف أربى فيه على سيبويه، وصرف الكسائي له عزمه فسار من البعد إليه، أو وضع أنموذجاً في علوم البلاغة وقف عنده الجرجاني، ولم يتعد حده ابن أبي الاصبع ولم يجاوز وضعه الزماني، أو روى أشعار العرب أزرى بـ الأصمعي في حفظه، وفاق أبا عبيدة في كثرة روايته وغزير لفظه، أو تعرض للعروض والقوافي استحقها على الجليل، وقال الأحفش: عنه أخذت المتدارك واعترف الجوهري بأنه ليس له في هذا الفن مثيل، أو أصل في الطب أصلاً قال ابن سينا: هذا هو القانون المعتبر في الأصول، وأقسم الرازي بمحيي الموتى إن بقراط لو سمعه لما صنف الفصول، أو جنح إلى غيره من العلوم الطبيعية فكأنما طبع عليه، أو جذب له ذلك العلم بزمام فانقاد إليه، أو سلك في علوم الهندسة طريقاً لقال أوقليدس: هذا هو الخط المستقيم، وأعرض ابن الهيثم عن حل الشكوك وولى وهو كظيم، وحمد المؤتمن بن هود عدم إكمال كتابه الاستكمال وقال: عرفت قدر نفسي: وفوق كل ذي علم عليم، أو عرج على علوم الهيئة لاعترف أبو الريحان البيروني أنه الأعجوبة النادرة، وقال ابن أفلح: هذا العالم قطب هذه الدائرة، أو صرف إلى علم الحساب نظرة لقال السموأل بن يحيى: لقد أحيا هذا الفن الدارس، ونادى ابن مجلي الموصلي: قد أنجلت عن هذا العلم غياهبه حتى لم يبق فيه عمه لعامة ولا غمة على ممارس.
وقد وجدت مكان القول ذا سعة ** فإن وجدت لساناً قائلاً فقل!

وكيف لا تلقي إليه العلوم مقاليدها، وتصل به الفضائل أسانيدها، وهو ابن شيخ الإسلام وإمامه، وواحد الدهر وعلامه، وجامع العلوم المنفرد، ومن حقق وجوده في أواخر الأعصار إن الزمان لا يخلو من مجتهد، ومن لم يزل موضوع الأوضاع المعتبرة محمولاً ومن كان على رأس المائة الثامنة مضاهياً لعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى؛ فالخناصر عليه وعلى ولده تقعد، ولا غرو إن قام منشدهما فانشد:
إن المائة الأولى على رأسها أتى ** لها عمر الثاني لذا الدين صائنه

ووالي رجال بعد ذاك كمثله ** فها عمر وافى على رأس ثامنه

يظاهره نجلاً سعيد غدت به ** معاقل علم في ذرا الحق أمانة

إذا شيخ الإسلام أضاء سراجه ** رأيت جلالاً من سنا الفضل قارنه!

فلا يعدم الإسلام جمع علاهما ** ولن يبرح للدين دأبا ميامنه!

فقال علم الأخلاق: أصبت سواء الثغرة وجئت بالرأي الأكمل، وعرفت من أين تؤكل الكتف فطبقت المفصل بالمفصل؛ إلا أن من محاسن الأخلاق، ومعالم الأرفاق، أن تعودوا بفضلكم، وترجعوا بمعروفكم وبركم، إلى من جرى بكم في التفاخر مجرى الإنصاف، وبسط لسان كلمه بما اشتمل عليه كل منكم من جميل الأوصاف؛ ثم كان من شأنه أن وصل بالاتفاق والتئام حبلكم، وجمع بالمحل الكريم بعد التباعد شملكم، وذكركم بحسن المصافاة أصل الوداد القديم، وتلا بلسان الألفة فيكم: فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، بأن ينتصب كل منكم له شفيع إلى هذا السيد الجليل، ويكون له وسيلة إلى هذا الإمام الحفيل، إن يصرف إليه وجه العناية، وينظر إليه بعين الإقبال والرعاية ليعز في الناس جانبه، ويطلع في أفق السعد بعد الأفول غاربه، ويبلغ من منتهى أمله ما له جهد، ويسعد بالنظر السعيد جده فقد قيل: من وقع عليه نظر السعيد سعد.
على أنه- أمتع الله الإسلام ببقائه وبقاء والده، وجمع بينهما في دار الكرامة كما جمع لهما بين طارف المجد وتالده- قد فتح له من الترقي أول باب، ولا شك أن نظرة منه إليه بعد ذلك ترقيه إلى السحاب.
قأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ** وأول الغيث قطرة ثم ينسكب!

فقال علم التاريخ: اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وقروا عينا فإلى القصد الجليل وصلتم، وعلى غاية الأمل- ولله الحمد- حصلتم؛ فقد بلوت الأوائل والأواخر وخبرت حال المتقدم والمعاصر، فلم أرى فيمن مضى وغبر، وشاع ذكره واشتهر في ذوي المراتب العلية، والمناصب السنية، من يساوي هذا السيد الجليل فضلاً! أو يدانيه في المعروف قولاً وفعلاً؛ قد لبس شرفاً لا تطمع الأيام في خلعه، ولا يتطلع الزمان إلى نزعه، فانتهى إليه المجد فوقف، وعرف الكرم مكانه فانحاز إليه وعطف، وحلت الراسة بفنائه فاستغنت به عن السوى، وأناخت السيادة بأفنائه فألقت عصاها واستقر بها النوى، فقصرت عنه خطاً من يجاريه وضاق عنه باع من يناويه، واجتمعت الألسن على تقريضه فمدح بكل لسان، وتوافقت القلوب على حبه فكان له بكل قلب مكان:
ولم يخل من إحسانه لفظ مخبر ** ولم يخلو من تقريضه بطن دفتر!

فهو الحري بأن يكتب بالأقلام الذهب جميل مناقبه، وأن يرقم على صفات الأيام حميد مطالبه، فلا يذهب على ممر الزمان ذكرها، ولا يزول على توالي الدهور فخرها.
ولما تم للعلوم هذا الاجتماع الذي قارن السعد جلاله، وتفجرت ينابيع الفضل خلاله، أقبلوا بوجوههم على الشعر معاتبين، وبما يلزمه من تقريض هذا الحبر ومدحه مطالبين، وقالوا: قد أتى النثر من مدحه بقدر طاقته، وإن لم يوف بجليل قدره ورفيع مكانته، فلا بد من أن تختم هذه الرسالة بأبيات بالمقام لائقة، ولما نحن فيه من القضية الواقعة مطابقة، قائمة من مدحه بالواجب، سالكة من ذلك أحسن المسالك وأجمل المذاهب، لتكمل هذه الرسالة نظماً ونثراً، وتفتن في صناعة الأدب خطابة وشعراً، فقال سمعاً وطاعة، واستكانة وضراعة؛ ثم لم يلبث إن قام عجلاً، وأنشد مرتجلاً:
بشراكم معاشر العلوم أن ** جمعتم بصر حبر كامل!

فنونه لم تجتمع لعالم ** وفضله لم يكتمل لفضائل!

يشفي الصدور إن غذا مناظراً ** وبحثه فزينة المحافل!

كم عمرت دروسه من دارس ** وزينت بحليها من عاطل!

وأوضحت أقواله من مشكل ** لما أتى بأوضح الدلائل!

وكم غدت أراؤه حميدة ** ونبهت بجدها من خامل

وحكمه فكم أقال عثرة ** وجوده ففوق قصد الأمل!

هذا وقد فاق الورى رأسه ** محفوفة بألطف الشمائل!

من ذا يروم أن ينال شأوه ** أنى له بأمثل الأمائل!

مولى على فوق السماك رتبة ** قد زينت بأفضل الفواضل!

فما له في فضله من مشبه ** وما لبحر جوده من ساحل!

حاشى لراج فضله أن ينثني ** صفر اليدين أو ممنى الآجل!

قلت ولم أرى من تعرضللمفاخرة بين العلوم سوى القاضي الرشيد أبو الحسين بن الزبير في مقالته المقدم ذكرها؛ على أنها لم تكن جارية على هذا النمط، ولا مرتبة على هذا الترتيب، مع الاقتصار فيها على علوم قليلة، أشار إلى المفاضلة بينها على ما تقدم ذكره. ولكن الله تعالى قد هدى بفضله إلى وجوه الترجيح التي يرجح بها كل علم على خصمه، ويفلج به على غيره؛ والمنصف يعرف لذلك حقه. والذي أعانني على ذلك جلاله قدر من صنفت له وعلو رتبته، واتساع فضله، وكثرة علومه، وتعداد فنونه، إذ صفات الممدوح تهدي المادح وترشده.
ومنها المفاخرة بين السيف والقلم؛ وقد أكثر الناس منها: فمن عال وهابط، وصاعد وساقط.
وهذه رسالة في المفاخرة بين السيف والقلم، أنشأتها للمقر الزيني أبي يزيد الدوادار الظاهري، في شهور سنة أربعة وتسعين وسبعمائة، وسميتها: حلية الفضل وزينة الكرم في المفاخرة بين السيف والقلم؛ وهي: الحمد لله الذي عز السيف وشرف القلم، وأفردهما برتب العلياء فقرن لهما بين المجد والكرم، وسارى بينهما في القسمة فهذا للحكم وهذا للحكم.
أحمده على أن جمع بخير أمير بعد التفرق شملهما، ووصل بأعز مليك بعد التقاطع حبلهما، وأرغب إليه بشكر يكاثر النجوم في عديدها، ويكون للنعمة على ممر الزمان أبا يزيدها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يأتم الإخلاص بمذهبها، ولا ينجو من سيفها إلا من أجاب داعيها وأقربها، وأن محمداً عبده ورسوله الذي خص بأشرف المناقب وأفضل المآثر، واستأثر بالسؤدد في الدارين فحاز أفخر المعالي ونال أعلى المفاخر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قامت بنصرتهم دولة الإسلام فسمت بهم على سائر الدول، وكرعت في دماء الكفر سيوفهم فعادت بخلوق النصر لا بحمرة الخجل، صلاة ينقضي دون انقضائها تعاقب الأيام، وتكل ألسنة الأقلام عن وصفها ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام.
وبعد، فأنه ما تقارب اثنان في الرتبة إلا تحاسدا، ولا اجتمعاً في مقام رفعة إلا ازدحما على المجد وتواردا، ورام كل منهما أن يكون هو الفائز بالقدح المعلى، وأن يكون مفرقة هو المتوج وجيده وهو المحلى، وأدعى كل منهما أن جواده هو السابق في حلبة السباق، والفائز بقصب السبق بالاتفاق، وأن نجمه هو الطالع الذي لا يأفل، وسؤدده هو الحاكم الذي لا يعزل، وأن المسك دون عبيره، والبحر لايجيء نقطة في غديره، والدار لا يصلح له صدفاً، ونفيس الجوهر لا يعادله شرفاً، وأن منابر المعالي موقوفة على قدمه، ومجامر المفاخر فائحة بنشر كرمه.
ولما كان السيف والقلم قد تدانيا في المجد وتقاربا، وأخذا بطرفي الشرف وتجاذبا؛ إذ كانا قطبين تدور عليهما دوائر الكمال، وسعدين يجتمعان في دائرة الاعتدال، ونجمين يهديان إلى المعالي، ومصباحين يستضاء بهما في حنادس الليالي، وقاعدتين تبنى الدول على أركانهما، وشجرتين يجتنى العز من أغصانهما؛ جر كل منهما ثوب الخيلاء فخراً فمشى ويبختر، وأسبل رداء العجب تيها فما تخبل ولا تعثر، واتسع لم المجال في الدعوى فجال، وطاوعته يد المقال فقال وطال، وترقت إليهما عقارب الشحناء ودبت، وتوقدت بينهما نار المنافسة وشبت، وأظهر كل منهما ما كان يخفيه فكتب وأملى، وباح بما يكنه صدره والمؤمن لا يكون حبلى؛ وبدأ القلم فتكلم، ومضى في الكلام بصدق عزم فما توقف ولا تلعثم، فقال: باسم الله تعالى استفتح، وبحمده أتيمن وأستنجح؛ إذ من شأني الكتابة، ومن فني الخطابة؛ وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله تعالى فهو أجذم، وكل كلام لا يفتتح بحمده فأساسه غير محكم ورداؤه غير معلم؛ والعاقل من أتى الأمر من فصه، وأخذ الحديث بنصه؛ والحق أحق أن يتبع، والباطل أجدر أن يترك فلا يصغى إليه ولا يستمع؛ إني لأول مخلوق بالنص الثابت والحجة القاطعة، والمستحق لفضل السبق من غير منازعة؛ أقسم الله تعالى بي في كتابه، وشرفني بالذكر في كلامه لرسوله وخطابه، فقال جل من قائل: ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وقال جلت قدرته: {اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم}، فكان لي من الفضل وافر القسمة، وخصصت بكمال المعرفة فجمعت شوارد العلوم وكنت قيم الحكمة.
فقال السيف: بسم الله والله أكبر: {نصر من الله وفتح قريب}. لكل باغ مصرع، وللصائل بالعدوان مهلك لا ينجو منه ولا ينجع؛ وفاتح باب الشر يغلق به، وقادح زند الحرب يحرق بلهبه؛ أقول بموجب استدلالك، وأوجب الاعتراض عليك في مقالك: نعم أقسم الله تعالى بالقلم ولست بذلك، وكان أول مخلوق ولست المعني بما هنالك؛ إن ذلك لمعنى يكل فهمك عن إدراكه، ويضل نجمك أن يسري في أفلاكه؛ وأنت وإن ذكرت في التنزيل، وتمسكت في الامتنان بك في قوله: {علم بالقلم} بشبهة التفضيل؛ فقد حرم الله تعالى تعلم خطك على رسوله، وحرمك من مس أنامله الشريفة ما يؤسىعلى فوته ويسر بحصوله، لكني قد نلت في هذه الرتبة أسنى المقاصد، فشهدت معه من الوقائع ما لم تشاهد، وحلاني من كفه شرفاً لا يزول حليه أبداً، وقمت بنصره في كل معترك: وسل حنيناً وسل بدراً وسل أحداً؛ ذكر الله تعالى في القرآن الكريم جنسي الذي أنا نوعه الأكبر، ونبه على ما فيه من المنافع التي هي من نفعك أعم وأشهر، وما اجتمع فيه من عظيمي الشدة والبأس، فقال تقدست عظمته: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}. على أنك لو اعتبرت جنسي القصب والحديد، وعرفت الكليل منهما والجليد، لتحققت تسلط الحديد عليك قطاً وبرياً، وتحكمه فيك أمراً ونهياً.
فقال القلم: فررت من الشريعة وعدلها، وعولت على الطبيعة وجهلها، فافتخرت بحيفك وعدوانك، واعتمدت في الفضل على تعديك وطغيانك، فملت إلى الظلم الذي هو إليك أقرب، وغلب عليك طبعك في الجور: والطبع أغلب؛ فلا فتنة إلا وأنت أساسها، ولا غارة إلا وأنت رأسها، ولا شر إلا وأنت فاتح بابه، ولا حرب إلا وأنت واصل أسبابه؛ تؤكد مواقع الجفاء، وتكدر أوقات الصفاء، وتؤثر القساوة، وتؤثر العداوة؛ أما أنا فالحق مذهبي، والصدق مركبي، والعدل شيمتي، وحلية الفضل زينتي؛ إن حكمت أقسطت، وإن استحفظت حفظت وما فرطت؛ لا أفشي سراً يريد صاحبه كتمه، ولا أكتم علماً يبتغي متعلمه علمه؛ مع عموم الحاجة إلي، والافتقار إلى علمي والاكتساب مما لدي؛ أدير في القرطاس كاسات خمري فأزري بالمزأمير وأزهرأ بالمزاهر، وأنفث فيه سحر بياني فألعب بالألباب وأستجلب الخواطر، وأنفذ جيوش سطوري على بعد فأهزم العساكر:
فلكم يفل الجيش وهو عرموم ** والبيض ما سلت من الأعماد!

فقال السيف: أطلت الغيبة، وجئت بالخيبة، وسكت ألفاً، ونطقت خلفاً.
السيف أصدق أنباء من الكتب ** في حده الحد بين الجد واللعب

إن نجادي لحلية للعواتق، ومصاحبتي آمنة من البوائق؛ ما تقلدني عاتق إلا بات عزيزاً، ولا توسدني ساعد إلا كنت له حرزاً حريزاً؛ أمري المطاع وقولي المستمع، ورأيي المصوب وحكمي المتبع؛ لم أزل للنصر مفتاحاً، وللظلام مصباحاً، وللعز قائداً، وللعداة ذائداً؛ فأنى لك بمساجلتي، ومقاومتي في الفخر ومنافرتي؟؛ مع عري جسمك ونحافة بدنك، وإسراع تلافك وقصر زمنك، وبخس أثمانك على بعد وطنك، وما أنت عليه من جرى دمعك، وضيق ذرعك، وتفرق جمعك، وقصر باعك، وقلة اتباعك.
فقال القلم: مهلاً أيها المساجل، وعلى رسلك أيها المغالب والمناضل؛ لقد أفحشت مقالاً، ونمقت محالاً، فغادرتك سبل الإصابة، وخرجت عن جادت الإنابة، وسؤت سمعاً فأسأت جابة؛ إني لمبارك الطلعة وسيمها، شريف النفس كريمها، آخذ بالفضائل من جميع جهاتها، مستوف للممادح بسائر صفاتها؛ فطائري ميمون، وغولي مأمون، وعطائي غير ممنون؛ أصل وتقطع، وأعطي وتمنع، وتفرق وأجمع؛ وإن ازدراءك بي من الكبر المنهي عنه، وغضك عني من العجب المستعاذ منه؛ ومن حقر شيئاً قتله، ومن استهان بفضائل فضله؛ وإني وإن صغر جرمي فإني لكبير الفعال، وإن نحف بدني فإني لشديد البأس عند النزال؛ وإن عري جسمي فكم كسوت عارياً، وإن جرى دمعي فكم أرويت ظامياً، وإن ضاق ذرعي فإني بسعة المجال مشهور، وإن قصر باعي فكم أطلقت أسيراً وأنا في سجن الدواة مأسور؛ إذا امتطيت طرسي، وتدرعت نقسي، وتقلدت خمسي، وجاشت على الأعداء نفسي:
رأيت جليلاً شأنه وهو مرهف ** ضنى وسمينا خطبه وهو ناحل!

أنسيت إذ أنت في المعدن تراب تدامس بالأقدام؟ وتنسفك الرياح وتزري بك الأيام؟ ثم صرت إلى القين تقعد لك السنادين بالمراصد، وتدمغك المقامع وتسطو بك المبارد؛ ثم لولا صقالك لأذهبك الجرب وأكلك الصدى، مع قلة صبرك على المطر والندى.
فقال السيف: إنا لله! لقد استأسدت الثعالب، واستنسرت البغاث فعد العصفور نفسه من طير الواجب، وجاء الغراب إلى البازي يهدده، ورجع ابن أوى على الأسد يشرده؛ فلو عرفت قدر نفسك، ولزمت في السكينة طريق أبناء جنسك ووقفت عند ما حد لك، وذكرت عجزك وكسلك، لكان أجدر بك وأحمد لعاقبتك وأليق بأدبك.
إن الملوك لتعدني لمهماتها، وتستنجد بي في ملماتها وتتعالى في نسبي، وتتغالى في حسبي، وتتنافس في قنيتي وتتحاسد، وتجعلني عرضة لأيمانها فتتعاقد بالحلف علي وتتعاهد، وتتدخرني في خزائنها ادخار الأعلاق وتعدني أنفس ذخائرها على الإطلاق، فتكللني الجواهر، وتحلني العقوةد وأظهر في أحسن المظاهر؛ أبرز للشجعان خدي الأسيل فأنسيهم الخدود ذوات السوالف، وأزهو بقدي فأسلبهم هيف القدود مع لين المعاطف، وأوهم الظمآن من قرب أن بأنهاري ماء يسيل، وأخيل للمقرور من بعد أني جذوة نار فيطلبني على المدى الطويل؛ ويخالني متوقع الغيث برقاً لامعاً، ويظنني الجائز في الشرق نجماً طالعاً؛ فالشمس من شعاعي في خجل، والليل من ضوئي في وجل، وما أسرعت في طلب ثأر إلا قيل: فات ما ذبح وسبق السيف العذل.
فقال القلم: برق لمن لا عرفك، وروج على غير الجوهري صدفك؛ فما أنت من بزي ولا عطري، ولست بمساوٍ حدك القاطع بقلامة ظفري؛ إن برقك لخلب، وإن ريحك لأزيب، وإن ماءك لجامد، وإن نارك لخامد؛ ومن ادعى ما ليس له فقد باء بالفجور، ومن تشيع بما لم يعط فهو كلابس ثوب زور.
ومن قال إن النجم أكبرها السهى ** بغير دليل كذبته ذكاء!

أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، وكريمها المبجل وعالمها المهذب؛ يختلف حالي في الأفعال السنية باختلاف الأعراض، وأمشي مع المقاصد الشريفة بحسب الأغراض، وأتزيا بكل زي جميل، فأنزل في كل حي وأسير في كل قبيل؛ فتارة أرى إماماً عالماً وتارة لدر الكلام ناثراً وأخرى لعقود الشعر ناظماً، وطوراً تلفيني جواداً سابقاً، ومرة تجدني رمحاً طاعناً وسهماً راشقاً، وآونةً تخالني نجماً مشرقاً، وحيناً تحسبني أفعواناً مطرقاً؛ قد فقت الشبابة في الطرب، وبرزت عليها في كل معنى وإن جمع بيننا جنس القصب؛ فكانت للأغاني، وكنت للمعاني، وجاءت بغريب النغم، وجئت ببديع الحكم، ولعبت بالأسماع طرباً، وولعت بالألباب فأتخذت لدهرها مما عراها عجباً.
فقال السيف: ذكرتني الطعن وكنت ناسياً، وطلبت التكثر فازددت قلة وعدت خاسياً، فكنت كطالب الصيد في عرسة الأسد إن لقيته أهلكه، وخالفت النص فألقيت بيديك إلى التهلكة؛ فاقنع من الغنيمة بالإياب، وعد الهزيمة مع السلامة من أربح الأكساب؛ فلست ممن يشق غباري، ولا يقابل في الهيجاء ضرمي ولا يصطلني بناري؛ فكم من بطل أبطلت حراكه، وكم من شجاع عجلت هلاكه، وكم صنديد أرقت دمه، وكم ثابت الجأش زلزت قدمه.
وأراد القلم أن يأخذ في الكلام، ويرجع إلى الجدال والخصام، فغلب عليه رقة طبعه وحسن موارده، وسلاسة قيادة وجميل مقاصده، فمال إلى الصلح وجنح إلى السلم، وأعرض عن الجهل وتمسك بالحلم، وأقبل على السيف بقلب صاف، ولسان رطب غير جاف، فقال: قد طالت بيننا المجادلة، وكثرت المراجعة والمقأولة، مع ما بيننا من قرابة الشرف، وأخذ كل منا من الفضل بطرف؛ فنحن في الكرم شقيقان، وفي المجد رفيقان؛ لايستقل أحدنا بنفسه، ولا يأنس بغير صاحبه وإن كان من غير جنسه؛ وقد حلبت الدهر أشطره، وعلمت أصفاه وأكدره، وقلبته ظهراً وبطناً، وجبت فيافيه سهلاً وحزناً؛ وإن معاداة الرفيق، ومباينة الشقيق، توجب شماتة العدو وتغم الصديق؛ فهل لك أن تعقد للصلح عقداً لا يتعدى حده، ولا يحل على طول الزمان عقده؟ لنكون أبداً متآلفين، وعلى السراء والضراء متصاحبين، حتى لا يضرب بنديمي جذيمة مع اصطحابنا مثل، ولا يتشبه بنا الفرقدان إلا باءا بالخطل.
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ** على شعث أي الرجال المهذب

فقال السيف: لقد رأيت صواباً، ورفعت عن وجه المحجة نقاباً، وسريت أحسن مسرى وسرت أجمل سير، وصحبك التوفيق فأشرت بالصلح: والصلح خير.
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ** يظنان كل الظن أن لا تلاقيا!

ثم قالا: لا بد من حكم يكون الصلح على يديه، وحاكم نرجع في ذلك إليه، لنحظى بزيادة الشرف، ونظفر من كمال الرفعة بغرف من فوقها غرف؛ ولسنا بفائزين بطلبتنا، وظافرين ببغيتنا، إلا لدى السيد الأكمل، والمالك الأفضل، الماجد السري، والبطل الكمي، والبحر الخضم، والغيث الأعم، مولى المعالي ومولي النعم، وممتطي جواد العز ورافع أعلام الكرم، جامع أشتات الفضائل ومالك زمامها، وضابط أمر الدولة الظاهرية وحافظ نظامها، المقر الكريم، العالي، المولوي، الزيني، أبي يزيد الدوادار الظاهري: ضاعف الله تعالى حسناته المتكاثرة، وزاده رفعة في الدارين ليجمع له الارتقاء بين منازل الدنيا والآخرة؛ فهوقطب المملكة الذي عليه تدور، وفارسها الأروع وأسدها الهصور، وبطلها السميدع وليثها الشهير، أبو عذرتها حقاً من غير نكرٍ وابن بجدتها الساقطة منه على الخبير، ومعقلها الأمنع وحرزها الحصين، وعقدها الأنفس وجوهرها الثمين، وتلادها العليم بأحوالها، والجدير بمعرفة أقوالها وأفعالها، وترجمانها المتكلم بلسانها، وعالمها المتفنن في أفنانها، وطبيبها العارف بطبها، ومنجدها الكاشف لكربها.
هذا: وإنه لمالك أمرنا، ورافع قدرنا، والصائل منا بالحدين، والجامع منا بين الضدين؛ فلو لقيه فارس عبس لولى عابساً، أو طرق حمى كليب لبات من حماه آيسا، أو قارعه ربيعة بن مكدم لعلا بالسيف مفرقه أو نازله بسطام لبدد جمعه وفرقه؛ كما أنه لو قرن خطه بنفس الجوهر لعلاه قيمة، أو قاسمه ابن مقلة في الكتابة لما رضي أن يكون قسيمه، أو فاخره ابن هلال لرأى انه سبقه إلى كل كريمة.
وبالجملة فعزه الظاهر وفضله الأكمل، وسماكه الرامح وسماك غيره الأعزل؛ فلا يسمح الزمان أن يأتي له بنظير، ولا أراد مدع بلوغ شأوه إلا قيل: اتئد فلقد حأولت الانتهاض بجناح كسير:
فحيهلاً بالمكرمات وبالعلى ** وحيهلاً بالفضل والسودد والمخض

فالحمد لله الذي جمعنا بأكرم محل وأفضل، وأحسن مقام وأجمل؛ فهلم إليه يعقد بيننا عقد الصلح، ونبايعه على ملازمة الخدمة والنصح.
ثم لم يلبثا أن كتبا بينهما كتاب بالصلح والمصافاة، وتعاهدا على الود والموافاة، وأعلن بعقد الصلح مناديهما، وحدا بذكر التعاضد والتناصر حاديهما وراح ينشد:
حسم الصلح ما اشهته الأعادي ** وأذاعته ألسن والحساد!

وزالت عنهما الأحقاد والإحن، وباتا في أعز مكان وأشرف وطن، وثلث قرانهما فأسعد، ثم قام منشدهما فأنشد:
لا ينكر الصلح بين السيف والقلم ** فعاقد الصلح عالي القدر والهمم!

أبو يزيد نظام الملك مالكنا ** وواصل العلم في علياه بالعلم

فهو المراد بما أبديه من مدح ** وغاية القصد من ترتيب ذا الكلم!

وإن جرى مدح سيف أو علا قلم ** فذاك وصف لما قد حاز من كرم!

قلت: وسبب إنشائي لهذه الرسالة أن الأمير أبا يزيد الموضوعة له، تغمده الله تعالى بالرحمة والرضوان، كان من جودة الخط وتحرير قواعده في الطبقة العليا، وعظمت مكانته عند سلطانه الملك الظاهر برقوق وعلت رتبته حتى ولاه وظيفة الدوادارية بإمرة تقدمة ألف، ولم يزل مقدماً عنده حتى مات هو متوليها، وأولاني عند عملها له من الصلة والبر المتوالي ما يقصر عنه الوصف، ويكل عنه اللسان.
الصنف الرابع من الرسائل الأسئلة والأجوبة وهي على ضربين:
الضرب الأول: الأسئلة الامتحانية:
قد جرت عادة مشايخ الأدب وفضلاء الكتاب أنهم يكتبون إلى الأفاضل بالمسائل يسألون عنها: إما على سبيل الاستفهام واستماحة ما عند المكتوب إليه في ذلك، وأما على سبيل الامتحان والتعجيز. ثم تارة يجاب عن تلك الأسئلة بالأجوبة فتكتب، وتارة لا يجاب عنها، بحسب ما تقتضيه الحال.
وهذه رسالة كتبها الشيخ جمال الدين بن نباتة المصري إلى الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي صاحب ديوان الإنشاء بالمملكة الشامية، وقد بلغه أن بعض أهل الديوان نال منه، وأن الشيخ شهاب الدين المذكور ناضل عنه ودافع، فكتب إليه يشكره على ذلك ويسأل كتاب الديوان عن أسئلةٍ بعضها يرجع إلى صنعة الإنشاء، وأكثرها يرجع إلى فن التاريخ. وقد بينت بعضها ونبهت عليه في مواضيعه في خلال هذا الكتاب، وهي:
لا يخرج الكره مني غير نائبة ** ولا ألين لمن لا يبتغي ليني!

الاستفتاح بـ لا تيمن ببركة الشهادة، وهي ههنا مقراض يقطع من العيب المدة ويحسم المادة؛ فحسم الله عن سيدنا الإمام العلامة القدوة، شهاب الدين، مكمل الآداب، وملك الشعراء والكتاب، شر كل عين حاسدٍ ولو أنها عين الشمس، وحماه عن مد ألسنة ذوي الاغتياب والارتياب من الهمج والهمس، وهيأ له أسباب الخير حتى يكون يومه فيه مقصراً عن الغد زائداً على الأمس، واستخدام له الأقدار حتى تكون فرائض تقبيل أنامله العشر عندهم كفرائض الخمس، وجعل ما يرد عنه العين من العيب- بعد شأنه عن متنأول- وقاية عن اللمس، حتى يكون المعنى بقول القائل:
ولا عيب فيه غير أن علاءه ** إذا حددوه كان قد جاوز الحدا

ولا عيب أيضاً في مآثر بيته ** سوى أنها يروي بألسنة الأعدا؟!

وحتى يؤمن عليه القائل:
ما كان أحوج ذا الكمال إلى ** عيب يوقيه من العين!

ويقبل من الآخر قوله:
شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ ** من شر أعينهم بعيب واحد!

العبد يخدم بسلام ما روضة نقطها الجو بدر سحائبه، وأفرغ عليها الأفق سفط كواكبه، وامتد نوء الذراع لتدبيج سمائها، وتأريج أرجائها، وتخميش معاصم أنهارها المنشقة بأفنائها، وصقال نسماتها السحرية، ومغازلة عيونها السحرية، وهوان الغالية بنفحاتها الشجرية، تصرف دنانير أزهارها الصروف، ويسل جدولهاعلى الهموم السيوف، وتجذب حمائمها القلوب بالأطواق، ويتشفع دوحها إلى النواظر بالأوراق؛ قد ترقرق في وجناتها ماء الشباب، وغني مطرب حمامها وعنترة في حك من الذباب، وبحرها رونق السيف وفي قلب روضته الذباب.
فما كل أرض مثل أرض هي الحمى ** وما كل نبت مثل نبت هو البان!

يوماً بأبهج منه أشواقاً، وأطيب منه انشقاقاً واتساقاً، والطيبون للطيبات، ولكل غيث نبات، وما لذلك الغيث إلا هذا النبات.
ونعود فنقول: لا أدري أأتعجب:
على أنها الأيام قد صرن كلها ** عجائب حتى ليس فيها عجائب!!

من قوم هم ما هم: شرب مناسب، وطيب مكاسب، قد أمكنتهم المعالي، وطاوعتهم الأيام والليالي، وخدمتهم جواري السعود وتطامنت لكل منهم مراقي الصعود، كابر بسكون الجأش منحدر(؟) وكنت قد استجديت كلاً منهم ولكن بالكلام، واستسقيت ولكن قطرة من غمام الأقلام:
وأيسر ما يعطي الصديق صديقه ** من الهين الموجود أن يتكلما!

وليسعد النطق إن لم يسعد الحال فضن وضن ما ضن، واستعطف بنسيم الكلام غصن يرعاه فما عطف ولا حن، وبخل بما رزقه الله فإن الفضيلة من الرزق، وحرمني لذة ألفاظه التي إذا أدخلت في رق دخل حر البلاغة تحت ذلك الرق؛ وهل هو البحر فكيف شح بمدة من مده، والغيث ولا أقول: إن الذي حبسه إلا ما قسمه الله تعالى من الحظ عند عبده:
وإذا الزمان جفاك وهو أبو الورى ** طرا فلا تعتب على أولاده!

فأعلى الله كلمة سيدنا العلامة في الدارين، وشكر غني جود كرمه وكلمه الدارين؛ فهو صاحب ديوانهم، وحجة زمانهم؛ فلقد وصفني بما يزيد على الجواب، وشافهني من الشكر بما لا يتوارى من الرزق بحجاب، وأمنني العز والزمان حرب، ونصرني والأيام سيوف تتنوع من الضرب في كل ضرب، وأعطاني كرمه والمحل محل، وفي قلب الزمان دخل، ونحلني شهدة إحسانه والأوقات كإبر النحل، حتى عذرني في حبه من كان من اللائمين، واهتديت من لفظه وفضله بقمرين لا يميل أحدهما ولا يمين، وصلت من جاهه وماله بيدين إلا أن كلتيهما في الإعراض يمين.
ويلومني في حب علوة نسوة ** جعل الإله خدودهن نعالها!

وحرس الله سيدنا شهاب زمانهم، كما حرس به سماء ديوانهم؛ فلقد أسمعني من الشكر ما أربى على الأرب، وجعلني كحاجب حين دخل على كسرى وهو واحد من العرب خرج وهو سيد العرب، وهدتني أنواره وأنا أخبط من ليل القريحة في عشواء، وجادت على أنواؤه وناهيك بتلك الأنوار من الأنواء، ورفعتني ألفاظه ولكن على السماك برغم حسودي العواء؛ وهذه قصائده في تتدارسها ألسنة الأقلام، وتكتب بأنقاس الليالي على صفحات الأيام؛ من كل بيت هو بيت مال لا ينقصه الإنفاق، ولولا التقى لقلت: إنه البيت الذي أمر الله تعالى بحجة الرفاق من الآفاق؛ فمتى أتفرغ لطلب مدحه، وقد شغلني بمنحه؟ ومتى أجاريه بامتداح وإنما مدحي له من فوائد مدحه:
وما هو إلا من نداه وإنما ** معالية تمليني الذي أنا كاتبه!

أم أتعجب ممن ثنيت عنان الثناء إليه، وجلوت عرائس المدائح عليه وعاديت في تنضيد أوصافه الكرى، وأنضيت بالقلم له في نهار الطرس وليل النقس من السير والسرى، ومدحته بملء في اجتهدت في وصفه وكان سواء على أن أجهدت، في وصفه أو اجتهدت، فجازاني مجازاة السنمار، وأوقعني من عنت عتبه في النار، وجعل محاسني التي أدلي بها ذنوباً فكيف يكون الاعتذار؟:
وكان كذئب السوء إذ قال مرةً ** لعمروسة والذئب غرثان مرمل

أأنت التي من غير سوء شتمتى؟ ** فقالت متى ذا؟ قال ذا علم أوّل

فقالت ولدت الآن بل رمت غدوة ** فدونك كلني لا هنالك مأكل!

وحل هذا المترجم، وتحقيق هذا الظن المرجم، أنه بلغني أن جماعة من الذين استفتيتهم استنباطاً لفوائدهم، والتقاطاً لفرائدهم، لا تكليفاً لهم فيما لا يقوم به إلا الأقوى من الأقوام، ولا يستنجد به في هذا الوقت إلا بأرباب صفحات السيوف لا أرباب قصبات الأقلام، أرادوا الغض مني، ونفي الإحسان عني؛ وهيهات! أنا أبو النجم وشعري شعري هأنا وبضاعتي، وهذه يدي لا أني ألقيت بها السلم ولكن لأعرض صناعتي: هو الحمى ومغانيه وإنهم اجتمعوا بالميدان على حديثي، وذكروا قديمي وحديثي، وتسابقوا في الغيبة أفراس رهان، واعجب كلا منهم أن يقول: هذه الشقراء في يدي وهذا الميدان؛ ولاموا وعذلوا، وهموا بالسب وفعلوا، واستطأبوا لحم أخيهم فسلقوه بألسنة حداد وأكلوا، حتى تعدى ذلك إلى من جاد علي بالجواب، وفعله إما جزاء للمدح وإما للثواب:
فقلت لها عيثي جعار وجرري ** بلحم امريء لم يشهد اليوم ناصره!

وما كان المليح أن يغري بي من سبق مدحه إلي، ومن انتصر بعزه لنفسه فما انتصر لدي وهذا لعمري جهد من لا له جهد وما تخلوا هذه الأفعال: إما أن تكون مجازة على مدحه، فأين الكرام وفضلهم، والمنصفون وعدلهم؟ أو ضناً أني عرضت بهم فيمن عرضت، فأين ذكاء الألباء وأين عقله؟ وهل تضن السماء أن يدأ تصل إليها، والنجوم أن خلقاً تحكم عليها؟ والذهب محروس لا يصدى جرمه، والجوهر معروف لا يجهل حكمه؛ ومن الذي تحدثه نفسه أن يجحد الشمس فضلها الطائل، أو يحسن له عقله أن يقول: سبحان وائل كباقل؟؛ فقلت أدركني ذلك اليوم ولما أمزق، وأنجدني بكل لفظة هي أمضى من السهم وأرشق، وأضوء من النجم وأشرق؛ وما أعرف كيف صبري على هذا الحرب في صورة السلم؟ وما أضنه أراد إلا أن يعلم قلبي الذي في يده الحكم، كما علمه القلم؛ وحيث قضى الحديث ما قضى، ومضى الوقت وما كان إلا سيفاً في عرض العبد مضى:
فكرت تبتغيه فصادفته ** على دمه ومصرعه السباعا

فأنا أنشد الله تعالى هؤلاء السادة الغائبين، أو القوم العاتبين، هل يعرفون أن الذي عرضت به منهم قوم قد استولى عليهم العي بجريضه، ونزل فيهم الجهاد بقضه وقضيضه، وأصبح بابهم لهم كبستان بلاثمار، وديوانهم على رأي أبي العلاء كديوان أبي مهيار؛ لا يحسن أحدهم في الكتابة غير العمامة المدرجو، والعذابة المعوجة، والعباءة الضيقة والأثواب المفرجة، ويتنأول السلم باليمين وكتابه إن شاء الله تعالى بالشمال، ومشى هذا على هذا ولكن على الضلال؛ لو سئل أحدهم عن البديع في الكتابة لم يعرف من السؤال غير الترديد، وعن عبد الحميد لزاد في الفكر ونقص: وعبد الحميد عبد الحميد، والصاحب لقال: إنه تبرقع بمجلسي، والخوارزمي لقال: سرج فرسي، والفاضل لقال: ها هوذا ذيل ملبسي. فأن كان الأمر كذلك ففيم الملام والتنفيذ:
علقوا اللحم للبزا ** ة على ذروتي حضن

ثم لاموا البزاة أن ** قطعت نحوها الرسن

لو أرادوا صيانتي ** حجبوا وجهك الحسن!

الوجه الحسن ههنا وجه المنصب وحجابه عن شين تلك الآثار، وتخميش تلك الألفاظ.
وإن كان غير ذلك فما مثلي مع من ذكرني إلا قول القائل: سافر بطرفك حيث شئت فلن ترى إلا بخيلا! فقيل له: بخلت الناس، فقال: كذبوني بواحد. وهأنا فلتكذبوني بواحد ممن عرضت، وصحيح ممن أمرضت، وليبرز إلى مضجعة، وليكن على يقين من مصرعه؛ ولا يترك شيئاً من أدواته، ولا يأتي إلا ومعه نادبته من حمائم همزاته.
وأنا أقترح عليه من مسائل الكتابة بعض ما اقترحه الفضلاء، ونبه عليه العلماء؛ وإلا فما أنا أبو عذرته، ومالك إمرته، ولا يلوم إلا القائل:
من تحلى بغير ما هو فيه ** فضحته شواهد الإمتحان!

فإنه الذي نبتهي عليه وإن لم أكن ساهياً، وذكرني الطعن وما كنت ناسياً، حتى رميته من هذه المسائل، في مجاهل، لا يهتدي فيها بغير الذهن الواقد، واقتحمت به في بحار لا يعصم منها جبل الفكر الجامد؛ على أنها فيما أغفلت كالثمد من البحار، واللمحة من النهار، ولولا الاختصار، لأتيت منها بالجمع الجم فلنحمد الله والاختصار، فأقول: من كتب الورق واستنبطه؟ ومن ختم الكتاب بالطين وربطه؟ ومن غير طين الكتاب بالنشأ وضبطه؟ ومن قال: أما بعد في كتابه؟ ومن جعلها في الخطب وأسقطها في ابتدائته في المكاتبة وجوابه؟ ومن كره الاستشهاد في مكاتبات الملوك بالأشعار؟، وكيف تركها على ما فيها من الآثار، ومن الذي أراد أن يكتب نثراً فجاء شعراً؟، ومن وضع هذه الطرة في التقاليد واخترعها؟، وما حجته إذ قدمها على اسم الله ورفعها؟، ومن الذي باعد بين السطور ووسعها؟، وكيف ترك بالتعاظم في كتبه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولميسعه من التواضع ما وسعها؟، ومن استغنى بكتابة آية من كتاب الله عن الجواب؟، ومن اكتفى ببيت من الشعر عما يحتاج من تطويله الكتاب؟، ومن الذي عانى المترجمات ورتبها؟ وأخفى ملطفات الجواسيس وغيبها؟، ومن الذي سن البرد وبعثها في الملمات؟، ومن حاكى شيئاً من ملك سليمان فاستخدم الطيور في بعض المهمات؟، وما أوجز مكاتبة كتب بها عن خليفة في معنى؟، وما أبلغ جواب وأوجزه أجاب به عن خليفة من لا سمى لا كنى؟، ولم أرخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف لم يؤرخ بمولده أو غير ذلك من الأيام؟، ومن الذي أمره الخليفة بكتابة معنى فارتج عليه الكلام ولقنه في المنام؟، ومن الذي وصف برسالة طويلة شيئاً لم يصفه بنثار ولا نظام؟، وكيف جاز للكاتب أن يكتب آية من الكتاب في لفظه يحسبها من لا يحفظ أنها من عنده لا من حفظه؟، مثل قوله مع الرسول: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، وقول الآخر في كتابه: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق}، وكثير من هذا؟ وهل يؤخذ عليه في مثل ذلك ما أخذ على الحجاج في أسماء المستغيثين به من أهل السجن: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون}، وما الفرق بينهما؟
وعلام يطول الكاتب باء البسملة؟ ولا يثبت إلا قليلاً واو الحسبله؟، ولا يحمدل ولا يبسمل على ما ألف، وكيف يعلم في بعض السجعات على الأسماء المقصورة بالياء والأصل فيها الألف؟؛ وأسأله كيف يصف القراطيس والأقلام ويستدعيها؟، والسكين والدواة ويستهديها، وكيف يكتب ملك طلب منه عدو قطيعة عن جيشه يعطيها؟، وكيف يكتب عن خليفة استسقى ولم يمطر؟، وخليفة صارع فصرع كالمعتصم وكيف يعذر؟، وما الذي يكتب في نار وقع في حرب النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما الذي يكتب عن المهزوم إلى من هزمه في معنى ركونه إلى الإحجام؟، وكيف يهني خليفة خلع فرجع، وعرب عن السجن وطلع؟، وأسره العدو ثم تخلص واستقام بعد ما نهضه الدهر بمرض، أو تمرض فانتهض؟، وكيف يهني من زوج بعد موت أبيه أمه، ويعزي والداً قتل ولده وولداً قتل والده ويصوب حكمه؟، ويكتب عمن حاصر حصناً وتركه بعد تسهيل المسالك، وكيف يكتب في نيل لم يوف لا أحوج الله لذلك؟، ويعزي كافراً عن بعض الأعزاء الألزام، وينشئ عهد يهودي بوزارة أمير المؤمنين عليه السلام؟، ويكتب تقليداً لثلاثة أو أربعة من الحكام، ويستنجد بأموال أو مساكين(؟) من عدو كافر على كافر؟ ويبشر عدواً بأخذ بلاده منه، ويعتذر عن ملك أخذت شوانيه وحجزت عنه؟، ويهني خصياً بزواجه، ويعتذر عمن فر وترك ولده تحكم الظبا في أوداجه؟، ويكتب لملك بنى مباني فاحترقت أو وقعت، أو أجرى خيول رهان فسبقت خيله وانقطعت؟، أو خرج لصيد فلم يجد ما يصاد، أو لبرزة بندق احتفل فيها ولم يصرع شيئاً من الواجب المعتاد؟، أو ركب أول يوم من تملكه فتقطر به الجواد، أو وضعت له أنثى فضلها بكلام على ما يرجوه من ذكور الأولاد.
ومن ههنا أكف القلم عن شوطه، وأرفع عنه ما وضعه اللسان من سوطه، خوفاً من الملال والصخب، وكفى بالغرفة عن معرفة النهر.
فإذا نشط هذا الكاتب من هذا العقال، وتصرف في فنون هذا المقال، وخرج من هذه الأسئلة خروج السيف من الصقال، امتدت كف الثريا في هذا النسيان بمسح جبهته، وحاء بجواب هذا النكث كما يقال: برمته، وأماط لثامها، وشمر عن أزهارها أكمامها- انقطعت الأطماع دون غايته، وبسطت أيدي رسائل البلغاء لمبايعة رسالته، بل أتته وحمل قلمه على أقلام فرسان الكلام سوداء رايته، وبان هنالك ظلم العائب وحيفه، فكان كمن سل لنحره سيفه، وعذر على توالي التأنيب مؤنبه، وكان يومئذ له الويل لا لمن يكذبه، وامتاز هذا الفاضل بما تحدثه هذه الواقعة من الفخر وتجلبه:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ** ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب!

والمسؤول من إحسان سيدنا أن يسد الخلل كيف ما وجده، ويصلح الخطأ والخطل كما عودته منه وكما عوده؛ فإنه أمير هذه الصناعة ونحن الرعايا، وشيخ الفصاحة ونحن الفقراء الذين كم وجدنا في زواياه منها خبايا؛ وما هذه الرسالة يد امتدت تسأل الحلم ما يسعها، وهذه السطور إلا حبائل تتصيد من عوائده ما ينفعها ويرفعها.
فأرخي عليها ستر معروفك الذي ** سترت به قدماً علي عواري!

والله تعالى العالم أنها ةردت عن قلب مذهول عن حسن الإيقان، معدد عليه نوائب الدهر بأنامل الخفقان، مرمي بسهام الأعادي في قسي الضلوع، غائص في بحر الهم وكلما رمت أن يلقي إلي در الكلام ألقى در الدموع:
أبكي فتجري مهجتي في عبرتي ** وكأن ما أبكيته أبكاني!

لا يدع لي الفكر في قلة مصافاة الإخوان وقتاً أستنبط فيه معنى، ولا يفسح لي التعجب من أبناء الزمان لنقصهم أن أصحح نقداً ولا وزنا؛ أجنح لسلم الأيام فكأني لحربها جنحتس وأقدح فكرتي في استعطاف الزمان فكأني فيه قد قدحت؛ فلو قضى الله لي بالمنية من المنية لأرحت الزمان واسترحت:
فالأرض تعلم أنني متصرف ** من فوقها وكأنني من تحتها!

ولا فرق فيما بيننا غير أننا ** بمس الأذى ندري ومن مات لا يدري

ولا بد لي أن أطلق هذه الصناعة طلاقاً قطعياً، لا طلاقاً رجعياً، وأجاهرها جهاراً حربياً لا جهاراً عينياً، وأضع صعدة حملها من أدب عن بدني، وأتولى قوس داله مع سهم بائها فما أصبت غير كبدي؛ كأنما القوس منها موضع الوتر، وقلت اذهبي يا صبوتي بسلام، فماذا لقيت من آفاتها ومنيت به من الخوف في عرفاتها، ومطرت لا من عوارض قطرها ولكن عوارض مرجفاتها:
وإني رأيت في الحب في القلب والأذى ** إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهبا!

ومع هذا الحديث لم أشك أن أحداً سينتقد على تشبيهي، وطرقه قديمة في استفتاح المكاتبة، واستنجاح المخاطبة، ويقول: تلك أمة قد خلت، ودولة فاضلة أدبرت مثل ما أقبلت؛ فكيف تبعها وترك طريقة فضلاء عصره، وأبناء مصره؛ فالجواب ما قاله القاضي السعيد بن سناء الملك رحمه الله تعالى، فما كان أسعد خاطره!، وأكثر ذهب لفظه وجواهره!!:
إني رأيت الشمس ثم رأيتها ** ماذا علي إذا عشقت الأحسنا؟!

وذكرت أن الاس عدره ونسيت أن الاس أفعالها.
انتهت إلى هذا الموضع، والديك قد نعى بعيد الظلام، وبلغ عن الصبح السلام، والأزهار قد سلبته عينه فقام من كراه يصيح، وميدان الغصون قد أصخب بمغنى الأطيار وشغب الريح، ونسر السماء قد فر من الغداة وبازيها، والنجوم قد حملت إلى ملحدها من الغرب على نعوش دياجيها، والمجرة من الجوزاء عاطلة الخصر، وخاقان الصبح قد حمل على نجاشي الظلام راية النصر.
لا برح سيدنا معصوم الروية والارتجال، مسجلاً بشجاعة اليراعة والحرب سجال، محمود المواقف والمساعي والنفس نقع والطروس مجال، والسلام.
الصنف الخامس من الرسائل ما تكتب به الحوادث والماجريات ويختلف الحال فيها باختلاف الوقائع: فإذا وقعت للأديب ماجرية وأراد الكتابة بها إلى بعض إخوانه، حكى له تلك الماجرية في كتابه مع تنميق الكلام في ذلك، إما ابتداءً وإما جوابا، عند مصادفة ورود كتابه إذ ذاك إليه.
وهذه نسخة رسالة أنشأها الإمام قاضي قضاة المسلمين محيي الدين، أبو الفضل يحيى، ابن قاضي الإمام محيي الدين أبي المعالي محمد، بن علي، بن محمد، بن الحسين، بن علي، بن عبد العزيز، بن علي، بن الحسين، بن محمد، بن عبد الرحمن، بن القاسم، بن الوليد، بن القاسم، بن أبان، بن عثمان، بن عفان، رضي الله عنه، لما ورد إلى القاهرة المحروسة في التاسع من جمادى الأولى من سنة تسع وعشرين وستمائة وتعرف برسالة النمس؛ وهي: وردت رقعة سيدنا أسعده الله بتوفيقه، وأوضح في اكتساب الخيرات سبل طريقه، فوقفت عليها وقوف السار بورودها، المستسعد بوفودها، المبتهل إلى الله في إبقاء مهجته التي يتشرف الوجود بوجودها:
وليس بتزويق اللسان وصوغه ** ولكنه قد مازج اللحم والدما!

وفضضتها عن مثل النور تفتحه الصبا، وبرود الرياض تساهمت في اكتساء وشيها الأهضاب والربا؛ يكبو جواد البليغ في مضمار وصفها، وينبو غضب لسانه عن مجاراتها في رصفها؛ يخجل محيا النهار بياض طرسها، ويود الليل لو نفضت عليه صبغة نقسها، وتحسد الكواكب رائق معانيها، وتتمنى لو أعيرت فضل إرشاقها وتلايتها، في كل فقرة روضة وكل معنى كأس مدام، وكل ألف ساق وكل سين طرة غلام، وكل واو عطفه صدغ وكل نون تقويس حاجب، وكل لام مشقة عذار وكل صاد خطة شارب؛ تصيب من سامعها أقصى ما يراد بالنفث في العقد، وتستولي بلفظها على لبه استيلاء الجواد على الأمد.
فلما اجتليت منها المعاني المسبهة في اللفظ الموجز، وأجل الطرف منها ما بين نزهة المطمئن وعقلة المستوفز، وأسلمت قيادي إلى سحرها المحلل وإن جنى قتل العاشق المتحرز- علمت أن سيدنا أجرى في حلبه السباق فحاز قصب سبقها، وذللت له البلاغة فتوغل في شعابها وطرقها، وحكمت يده في أعنة الفضائل فسلمت القوس إلى باريها، ودرجات العلى إلى مستحقيها؛ فمن وائل؟ومن سحبان؟ومن عبد الحميد؟وابن صوحان، وأي خبر يقابل العيان؟ ومن يقاوم ما هو كائن بما كان؟؛ فسألت خاطري الجامد أن يعارض بوابله طلها، وأن يقابل بجثمانه ظلها، وأن يجاريها في حلبة المساجلة وإن دعي بالسكيت، ولقد أسمعت لو ناديت حياً وكيف بنطق من ميت؛ وأنى يطمع في مجاراة البحر ولات حين لعل أوليت؛ فوجدته أصلد من الصخرة مساً، وألفيت باقلا لديه قسا؛ فما كل من طرق قرى، ولا من إذا خلق فرى؛ وهذا المعهود من خاطري إذا كان جاماً فكيف وقد نضب مأوه وكدرت الحوادث بحر علمه والغير، فمن دون أن تستخرج منه الدرر أن يلين لضرس الماضع الحجر؛ فبذل جهده لما شعبت الهموم سبله، وتقنع بالخلق من لا جديد له.
هذا مع واقعة وقعت له فأصبح متشتتاً، وثنى عنانه عن كل شيء إليها متلفتاً، وذلك أنه في بارحته استولى عليه القلق بسلطانه، واستلبت يد الأرق كراه من بين أجفانه، كأنه ساورته ضئيلة سمها ناقع، أو مدت إليه خطاطيف حجن لها أيدي الخطوب نوازع:
إذا الليل ألبسني ثوبه ** تقلب فيه فتى موجع

فتارة فكرته متوجهة نحو قلة حظه، وآونة لا يقع إلا على ما يقذفه طارف لحظه؛ وإن يد الخمول قد استولت عليه، وأزمة المطالب صرفت عنه وحقها أن تصرف إليه، والسعادة شاردة عنه وما أجدرها أن تطيف ببابه وتستقر بين يديه:
لئن كان أدلى حابل فتعذرت ** عليه وكانت رادة فتحظت

لما تركته رغبة عن حباله ** ولكنها كانت لآخر خطت!!

ولقد جهد في سلم الدهر وهو يحاربه، وكيف توقى ظهر ما أنت راكبه؟ فما شام بارقة أمل إلا أخفقت ورجع يخفي حنين، وقرت أعين أعاديه كلما سخنت منه العين، فلقد أصبح أفرغ من حجام ساباط وإن كان أشغل من ذات النحيين.
وكلما تأمل جده العاثر الناكص، ونظر رزقه الناضب الناقص، وقابله الدهر بالوجه العابس الكالح، ومنى نفسه عقبى يوم صالح، ربع عليها فمن لي بالسانح بعد البارح؟ وناجى نفسه بأعمال الركائب، والاضطراب في المشارق والمغارب، وأن يرى بالجود طلعة نائر بالعرمس غرة آئب، ويصل التهجير بالسرى، ويبت من قيد الأوطان موثقات العرى؛ وإن كسدت فضيلة من فضائله، أو رثت وسيلة من وسائله، اكتسب بأخرى من أخواتها، ونفث من عقدها ومت بها وقال: أنا ابن بجدتها؛ فإلام وعلام وحتى متى، أجاور من أنا فيهم أضيع من قمر الشتا؟ وحالي أظهر من أن يقام عليه دليل، وإذا ذل مولى المرء فهو ذليل:
وما أنا كالعير المقيم بأهله ** على القيد في بحبوحة الدار يرتع

ثم استهول تقحم الإغوار والإنجاد، واستفتح لقادح زناد الحظ الإكداء والإصلاد، وأقول: أخظأ مستعجل أو كاد، فأثوب مثاب من حلب الدهر أشطره، وأخذ إذا ارتفع عن الدنية من حظه أيسره، وبنى كما بنى سلفه وقرر ما قرره، فأقول: أرفض الدنية ولا تلو عليها، فتكون أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها فالحرة تجوع ولا تأكل بثدييها:
ولسنا بأول من فاته ** على رفقه بعض ما يطلب

وقد يدرك الأمر غير الأريب ** وقد يصرع الحول القلب!

وتارة يخطر أن لو شكوت حالي إلى أصدقائي من ذوي الجاه، وسألتهم بإلحاقي بهم في الابتغاء من فضل الله، وأحضهم على انتهاز فرصة الإحسان قبل الفوت، وأضرب لهم: أعن أخاك ولو بالصوت فليس على مثلي ممن يخيفه الدهر في ذلك من جناح، وهل ينهض البازي بغير جناح؛ ثم أرى أنهم لو فضل عنهم شيء لجادوا، بل لو زويت الأرض لهم لازدادوا، ولو ملكوا ظل الله لأصبحت لديهم ضاحياً، وما حالي بخاف عليهم وكفى برغائها منادياً، وقبلي بغى علي ففاته وأدرك الجد السعيد معاويا؛ وإلى كم أعلل تعليل الفطيم بالخضاب:
سئمت العيش حين رأيت دهري ** يكلفني التذلل للرجال!

وأخرى يسلي نفسه عن مصابها ومصائبها، وينميها كر الأيام بيعاقبها، ويقص عليها تقلب الليالي بالأمم الماضية في قوالبها، وأنها ما قدمت لأحد سعادة إلا عقبتها بتغيير، وما سقت صفو الأماني بشر إلا شابت كأسه بتكدير، وأن سبيل كل أحد منها سبيل ذي الأعواد، وقصاراي ولو اتخذت الأرض مسكناً وأهلها خولاً سبيل رب القصر من سنداد، ولو عمرت عمر نوح كنت كأني وآدم وقت الوفاة على ميعاد؛ فإن شئت فارفع عصا التسيار أوضع؛ فما هو إلا: حارب بجد أودع.
فبينا أنا أعوم في هذه الخواطر متفكرا، وأقرع سن الندم على تقضي عمري في غير مآربي متحسراً، وأتسلى بمصارع الأولين آخرى متعبراً، ولو أنجزتني الأيام مواعيد عرقوبة، لأفضت بي إلى أحلى من ميراث العمة الرقوب، ولقد تقاعس أملي حتى قنعت بحالي وشر ما ألجاك إلى مخه عرقوبة ثم يخاطبني حجاي بأن تثبت واصبر، فالليل طويل وأنت مقمر، فستبلغ بك الأسباب، وينتهي بك إلى المقدور الكتاب؛ فلا تعجل فجري المذكيات غلاب.
فاستروحت إلى باب كان مرتجاً، وارتدت باستجلاء محيا السماء من بعض همي فرجاً، وانتشقت من نسيم السحر ما وجدت به من ضيق فكري مخرجاً، ففتحته عن شباك كتخطيط الأوفاق، أو كرقعة شطرنج وضعت بين الرفاق؛ ألبس من صبغة الليل شعاراً، واتخذ لاستجلاء وجه الغزالة نهاراً؛ جلد على القيام والكد، صبور على الحالين في الحر والبرد؛ يحول جثمان المرء عما واراه، ويبيخ إنسان الطرف رعي حماه؛ يديل من ظلمة الليل ضوء النهار، وينمو بما استودعته من الأسرار؛ يشرف إلى غيضه قد التفت أشجارها، وتهدلت ثمارها، ورقصت أغصانها إذ غنت أطيارها، واطردت بصافي الزلال أنهارها، ونمت بعرف العنبر الشحري أزهارها؛ وقد قامت عرائس النارنج على أرجلها، تختال في حليها وحللها؛ قد ألبست من أوراقها خلعاً خضراً، وحليت من ثمارها تبراً، ونظم قداحها في جيادها لؤلؤاً رطباً ورنحها نسيم السحر فمالت عجباً؛ وقد مدت في أرضها من البنفسج مفارش سندس فروزت بالجدأول، كبساط أخضر سلت أيدي القيون عليه صقيلات المعأول، وقد حدقت عيون الرقباء من النرجس قائمة على ساق، ولعبت بها يد النسيم فتمايلت كعناق المحبين عند الفراق؛ فاجتليت محياً وسيماً تتبلج أسرته، ومنظراً جسيماً تروق بهجته؛ قد مد السماط بساطاً أزرقاً، بزهر الكواكب مشرقاً، وطرزه بالشفق طرازاً مذهباً، وأبدى تحته للأصباح مفرقاً أشيباً:
ورث قميص الليل حتى كأنه ** سليب بأنفاس الصبا متوشح

ورقع منه الذيل صبح كأنه ** وقد لاح شخص أشقر اللون أجلح

ولاحت بقيات النجوم كأنها ** على كبد الخضراء نور يفتح!

وجنح البدر للغروب فتداعت الكواكب تتبعه كوكباً فكوكباً، فكأنه ملك اتخذ المجرة عليه مضرباً، وتوج بالثريا إكليلاً، وخنست الكواكب بين يديه توقيراً له وتبجيلاً، واصطفت حوله خدماً وجنوداً، ونشرت من أشعتها ألويةً وبنوداً، وأخذت مقاماتها في مراكزها كجيوشٍ عبئت للقاء مناجزها، ومسابقها أخذ فصة النصر ومناهزها:
ولاح سهيل من بعيد كأنه ** شهاب ينحيه عن الريح قابس!

وانبرى نسيم السحر عليلاً، وجر على أعطاف الأزهار ذيلاً بليلاً، وروى أحاديث الرياض بلسان نشره، مذيعاً لأسرار خزاماه وزهره، وغردت خطباء الطير على منابر الأغصان، واستنبطت من قلوب المحبين دفائن الأشجان، وحث داعي الفلاح، طائفة التقى والصلاح، على أن تؤدي فرضها ونفلها، وترتقي بخضوعها بين يدي مولاها درجات السعادة التي كانت أحق بها وأهلها، وهتف بشير النجح بمن أحيا ليلته لما تمزق قميص الليل وانفرى: عند الصباح يحمد القوم السرى.
فبينا أنا أتفكر في أن جملة ما عاينته سيصبح زائلاً، وعن تلك الصبغة العجيبة حائلاً، وأتدبر: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً} إذ أهدت إلي الأيام إحدى طرفها وغرائبها، وكبرى أوابدها وعجائبها، فطرق سمعي من الشباك نبأة، وتلتها وجبة تتبعها وثبة، فاستعذت من كيد الشيطان المريد، وقلت: أسعد أم سعيد؛ وإذا بنمس قد فارق وجاره إلى جاري، واختارني على الصحراء جاراً فارتضيته لجواري، فولج مستأنساً، ومرح بين يدي آنساً، وأراني أحد كتفيه في الاسترسال ليناً والآخر بالتمنع شامساً، فمد له الحرص على جوره حبائل مكره وشباكه، ويد الغبش تحول دون قنصه وإمساكه، وبقايا الظلام تقضي بتمنعه، وتصد عن جعله من الوثاق في موضعه، وأنا ملازمه ملازمة المعسر لرب الدين، حتى يتبين الصبح لذي عينين.
فلما خشيت على صلاتي الفوت عدلت إلى تأدية فرضها، وتوجيهها بين يدي موجبها وعرضها؛ فلما انفتلت من مصلاي، وانصرفت على مناجاة مولاي، برقت لي بارقة، خيل إلي أنها صاعقة، فقلت: أذر قرن الغزالة؟ وإلا فلات حين ذبالة؛ فقيل: إن الغلام نظر إليه شزراً، وهز له المهند فشق له من الظلماء فجراً، وأبدى له وجهاً مكهفراً، ورام أن يمطيه من المنية مركباً وعراً، كأنه قد لاقى أسداً هزبراً، وأترع له كأس الحمام بالوافي، ورماه بثالثة الأثافي، فعطفت عليه باللائمة منكراً لجهله، وهتفت به زاجراً عن قبح فعله، ثم عذرته: ومن لك بأخيك كله؛ وقلت له: ماذا تراك تصنع لو لاقيت أسداً أغلبا؟، لقد خلت أنك ترتد- وإن كنت وليداً- أشيبا؛ أمن هذا بادرات إلى السيف مخترطا؟، إنك لأجبن من المنزوف ضرطا لقد أظهرت من الفشل ما جاوز قدر الحد، ووضعت المزاح في محل الجدة وقابلت الأسهل بالأشد؛ فسحقاً لك وبعداً، لقد قدح مرجيك بعدها زناداً صلداً، واستنبع الماء جلمداً جلداً.
فصوب طرفه في وهتف مناديا، وأظهر وفاء أزرى بالسموءل بن عاديا: أنج هرباً ولا أخالك ناجياً، إني رميت من الخطوب بأصعبها، ولا ينبئك بالحروب كمجربها والخاص باللقمة أخبر بها؛ فلقد أوطأني ما لا أستقيل منه العثرة، وما لاقيت في حرب كهذه المرة، والعوان لا تعلم الخمرة لقد صرح لي بالشر ولم يجمجم، وكشر عن أنيابه غير مبتسم، ووحسبك من شر سماعه واست البائن أعلم، تالله إنه لأجرأ من خاصي الأسد، ولئن سبرته لتعلمن ما بينالذئب والنقد؛ ولقد رضيت نفسي من الغنيمة أن تؤب بذمائها، لما تشبث بخنصري فخضبها بدمائها، فقلت: أجفل عن جنابك الخير وأجلى أضرطاً وأنت الأعلى؟ ثم تضاحكت إليه لما شاهدت استعباره، وأويت له إذ رأيت استكثاره الخطب واستكباره، وقلت: من ضاف الأسد قراه أضفاره، ومن حرك الدهر أراه اقتداره؛ وعدلت إلى الذلول الشامس، المستأسد المستأنس وودت إليه فانقاد لها طَائعاً، وخضع لإجابة دعوتي سامعاً.
فلما حازه في القبضة الإيسار وبطل الإقلال من ذلك اللفظ والإكثار- وقد كان أعز من الأبلق العقوق، وأبعد من بيض الأنوق- استجليت صورته متأملاً، إذ لم يبق له سوى قبضتي موئلاً، فرأيت هامة فحمة، وجثة ضخمة، وشدقاً أهرتاً رحباً، ذا مرة على اختلاف الحوادث صعباً، وإنياباً محددة عصلاً كالنصال، وطرفاً مخالساً غير غر بالمكر والختال، كأنه شهاب يتوقد، أو شعلة نار لم تخمد، وسامعتين تتوجسان ما دار في الأوهام، وتدركان ما يناجي به المرء نفسه ولو في الأحلام؛ قد نيطت بعنق صغرت هامتها بالنسبة إليه، إن استدبرته قلت: هو مشرف عليها أو استقبلته قلت: هي مشرفة عليه، يشتمل على نحر خصيب، وصدر رحيب، فيه نزعتا بياض كهلالين قرنا في نسق، أو نجمي ذؤابة ظهراً في غسق، تسر نفس الناظر إليها، ويعقد خنصر الاختيار فيحسن الشيات عليها، اتصل ذلك بمنكب عتيب، وساعد شديد، وبرثن شثن ومخلب حديد:
ذوات أشاف ركبت في أكفها ** نوافذ في صم الصخور نواشب

معقفة الترهيف عوج كأنها ** تعقرب أصداغ الحسان الكواعب

قد جاور جؤجؤاً نهدا، وقابل كاهلاً ممتداً؛ يكاد خصره ينعقد اضطمارا، وهمته تتسعر ناراً؛ برجلين تسبق في الحضر يديه، وتقد بأظفارها أذنيه، وذنب كالراء المسبل يجره اختيالاً ومرحاً، ويتيه عجباً وفرحاً، إن انساب قلت: انساب أفعوان، أو صال قلت: أسد خفان، أو وثب سبق الوهم في انحطاطه، أو طلب أدرك البرق من نشاطه، أو طلب فات الطرف في انخراطه؛ أنعم مساً من أرنب، وأزهى من ثعلب، قد كساه الظلام خلعته، وقبل الصباح طلعته؛ حاز من القندس صقاله وبهجته، ومن الفنك لينه ونعمته؛ ألبس رداء الشباب، ونزه عن تزوير الخضاب؛ إن اختلس فما تأبط شراً، او خاتل أزرى بالشنفرى مكراً؛ أحد نفساً من عمرو بن معدي، لا يصلد قادح زناد بطشه ولا يكدي؛ أنزق من أبي عباد، وأصول من عنترة بن شداد؛ أفتك من الحارث بن ظالم، وأنهر فصداً للدم من حاتم، لا يلين ولا يشكو إلى ذي تصميت، كأنه كوكب في إثر عفريت؛ يكاد عند المخاتلة في انسيابه، يفوت الخاطر أو يخرج من إهابه، أن قارن طيراً أباحه منسراً كمنسر الأسد، أغلب فيه شغاً كأنه عقد ثمانين في العدد، فينشده: ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي، فلا يحس له بعين ولا أثر سجيس الليالي؛ فكأن قلوبها رطباً ويابساً لدى وكره العناب والحشف البالي؛ اعتاد قنص السانح والبارح، فما فات ورد المنية منه غاد ولا رائح؛ طويل القرا مدمج الأعظم، له مخاتلة سرحان وهجمة ضيغم؛ أحن من نقبه، وأضلم من حية، أطيش من فراشة، وأسبق إلى الغايات من عكاشة؛ أخطف من عقاب، وأشجع من ساكن غاب، أسرق من جر1 وأنوم من فهد، وألين من عهن وأخشن من قد؛ بأسه قضاء على الطير منزل، وبطشه ملك بآجالها مرسل.
فلما تأملت خلقه، وسبرت بتجربة الفراسة خلقه، عجلت له جريراً مستحصد المرة لوثاقه، وأحكمت شده في محل خناقه، وقلت له: إني مجربك سحابة هذا النهار، ومن سلك الجدد أمن من العثار، فعل ذي خبرة بمكره، وعلى ثقة من غدره؛ فإن اللئيم ذو صولة بعد الخضوع، وفضح التطبع شيمة المطبوع؛ وكيف الثقة به وإن استقر ولم ينبس؟ وأنى الطمأنينة إليه وهو الأزرق المتلمس؟.
ثم انصرفت إلى البلد لبعض شاني، والاجتماع بأخلائي وأخذاني، واستغرقت أديم النهار فيما توجهت له، وقطعت عمر يوم ما كان أطوله! فلما قضيت نهمتي، من نجعتي، وحانت مع وجوب الشمس رجعتي، ألفيته عمد إلى الوثائق فقرضه، ووفاه بالكيل الوافي ما اقترضه، وصال على شيخة نستسعد بدعائها، ونفزغ إن دهمنا هم قبل نداء أولي البطش إلى ندائها؛ ذات خلق عظيم، ومنطق رخيم، وقلب رحيم، ووجه ذي نضرة ونعيم؛ إن قامت أحيت الليل بالسهر، أو قرأت رأيتنا حولها زمراً بعدزمر؛ إن حادثتها نطقت بالسحر محللاً، أو تاركتها رأت الصمت على كثير من النطق مفضلاً؛ تسر نفسك في حالة الصخب، وتريك وجه الرضا في صورة الغضب؛ فمد إليها يد العدوان، وأطاع بأذاها أمر الشيطان، ولم يرقب فيها إلا ولا ذمة، وحملها فحملنا من أذاها غمة، ومزق قشيب أثوابها، وحكم مخالبه الحديدة في إهابها، فعظم مصاب من حوت داري بمصابها.
فلما وصلت رأيتها باكية ذات قلب مريض، وجناح مهيض، فسليتها بأن المصائب تلقاها الأبرار، وترفقت بها إلى أن رقات تلك الأدمع الغزار، وأوردت: إن جرح العجماء جبار؛ وقلت: إيها لك وآها، لقد ارتكبت خطة ما ألقيها بعذرك وأولاها!!، فلقد أنصف القارة من راماها ثم آليت أليه برة، لأوطئنه من الوثاق جمرة، ولأقتض بهذه المرة تلك المرة؛ وأتيته بسلسة تنبو أنيابه عن عجمها، ولا تثبت شياطين مكره برجمها؛ قد أبدع قينها الصنعة بإحكامها، وأتى بالعجب في نظامها، فلله هو ممن تحكم فيما يقطع الجلمد، فجعله من اللطاقة يحل ويعقد؛ فاستودعت عنقه منها أميناًلا يخفر وثيق ذمته، ولا تتطرق الأوهام إلى تهمته، مستحكم القوة في الشد، فتغيظ تغيظ الأسير على القد، ونظر إلي بطرف حديد، وتذلل بعد بأس شديد، وبصبص بذنبه فقلت: أمكراً وأنت في الحديد. فلما أيس من الخلاص، تلوث: {ولات حين مناص}.
فلما تم ما ذكرته، وأبدأته وأعدته، وردت رقعة سيدنا على عقابيل هذه الوقعة التي وقعت وصدت عن الجواب ومنعت، واقتضى بي الحال كتب هذه الخرافة وإن تشبثت بأذيال الجد، فأخرجتها مخرج الهزؤ وإن دلت على حوز قصبات المجد، ليعلم أن في الزوايا خبايا، وإذا صح أن الأصول عليها تنبت الشجر فأنا ابن جلا وطلاع الثنايا.
هذا: وإن أبقى قراع الخطوب في حدي فلولا، فالفحل يحمي شوله معقولا؛ ولقد تجمعت الخطوب علي من كل وجهة وأوب، وطرقت الرزايا جنابي من كل صوب، وجريت مع الخطوب كفرسي الرهان، وما هممت بمقصد إلا سقط بي العشاء على سرحان؛ وبكل حبل يختنق الشقي، ولعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي؛ والجلد يرى عواقب الأمور فيحمد عند النجاح عقبي السير ولو كنت أعلم الغيب لا ستكثرت من الخير.
تجوز المصيبات الفتى وهو عاجز ** ويلعب صرف الدهر بالحازم الجلد

فسطرت هذه الأحرف إلى سيدنا ليوافق خبري عند أصحابه خبره، ومن يشتري سيفي وهذا أثره واعلم أنها سيضرب بها في بابها المثل، وقد أوردها سعد وسعد مشتمل.
وهذه رسالة في الشكر على نزول الغيث، من إنشاء أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال الغافقي الأندلسي، نقلتها من خط الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري المصري وهي: الحمد لله الذي لا يكشف السةء سةاه، ولا يدعو المضطر إلا إياه ننزل فقرنا بغناه، ونعوذ من سخطه برضاه، ونستغفره من ذنوبنا: ومن يغفر الذنوب إلا الله.
وأشهد أن ل إله إلا الله وحده لشريك له إلهاً علا فاقتدر، وأورد عباده وأصدر، وبسط الرزق وقدر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بشر وأنذر، ورغب وحذر، وغلب البشرى على الإقناط، ودل على الصراط، وأشار إلى الساعة بالأشراط، ولم يأل أمته في الذب والاحتياط، صلى الله عليه وعلى الوزراء الخلفا، والبررة الأتقيا، والأشداء الرحما، والأصحاب الزعما، صلاة تملأ ما بين الأرض والسما، وتوافيهم في كل الأوقات والآن ا، وتضع الثناء موضع الثنا.
ولما لقحت حرب الجدب عن حيال، وأشفق رب الصريحة والعيال، وتنادى الجيران للتفرق والزيال، وتناوحت في الهبوب ريحها الجنوب والشمال، وتراوحت على القلوب راحتا اليمين والشمال، وأحضرت أنفس الأغنياء الشح، وودوا أن لا تنشأ مزنة ولا تسح، وتوهم خازن البر، أن صلعه يعدل صاع الدر، وخفت الأزواد، وماجت الأرض والتقيت الرواد، وانتزعت العازب القصي، فألقت العصي، وصدرت بحسراتها، وقد أسلمت حزراتها، وأصبحت كل قنة فدعاء، وهضبة درعاء، صفاه وهما ونقبا وهما؛ والصبح في كل أفق قطر أو قطع، والأرض كلها سيف ونطع، والشعر يشمر ذيله للنفاق، ويضمر خيله للسباق؛ وجاء الجد وراح الهزل، وقلنا: هذه الشدة هذا الأزل؛ وللمرجفين في المدينة عجاجة ظنوها لا تلبد، وقسي نحو الغيوب تعطف وتلبد؛ فما يسقط السائل منهم إلا على ناب يحرق، وشهاب يبرق؛ حتى إذا عقدوا الأيمان، وأخذوا بزعمهم الأمان، وقالوا: لا يطمع في الغيث، وزحل في الليث، فإذا فارق الأسد، لكد ما أفسد:
تخرضاً وأحاديثاً ملفقة ** ليست بنبع إذا عدت ولا غرب!

أنشأ الله العنان، وقال له: كن فكان؛ فبينما النجوم دراريها الأعلام، وأغفالها التي لا تحمد عندهم ولا تلام؛ قد لختلط مرعاها بالهمل، ولم تدر السدة بالحمل؛ ولا علم الجدي بالرئبال، ولا أحس الثور بالرامي ذي الشمال؛ إذ غشيتها ظلل الغمام، وحجنتها أستار كأجنحة الحمام، وأخذت عليها في الطروق، مصادر الغروب والشروق؛ فما منها إلا مقنع بنصيف، أو مزمل في نجادٍ خصيف؛ لم تترك له عين تطرف، ولا ثقبة يطلع منها أو يشرف؛ فباتت بين دور متداركة السقوط، ودرر متناثرة السموط، وديم منحلة الخيوط، وجيوش منصورة الأعلام، ثلبتة الأقدام، وكتائب صادقة الهجوم، صائبة الرجوم، تطلب المحل ما بين التخوم والنجوم، وما زالت ترميه بأحجاره، وتحترشه في أحجاره، وتغزوه في عقر داره، حتى عفت على آثاره، وأخذت للحزن والسهل بثاره.
فيا أيها المؤمن بالكواكب، انظر إلى الديم السواكب، واسبح في لجج سيولها، وارتح في ممر ذيولها، وسبح باسم ربك العظيم الذي قذف بالحق على الباطل، وأعاد الحلي إلى العاطل؛ فبرود الظواهر مخضرة، وثغور الأزهر مفترة، ومسرات النفوس منتشرة، والدنيا ضاحكة مستبشرة، وأرواح الأدواح حاملة، وأعطاف الأغصان مائلة، وأوراق الأوراق تفصل، وأجنحة الظلال تراش وتوصل، وخطباء الطير تروي وتخبر، وشيوخ المحارب تهلل وتكبر، وإن من شيء إلا يخضع لجبروته، ويشهد لملكوته وتلوح الحكمة ما بين منطقة وسكوته.
فأما الخطاطيف فقد سبق هاديها، ونطق شاديها، وتراجع شكراً لله ناديها؛ فعش يرم، ولبنة إلى أخرى تزم، وشعث يلم، وبدأة توفى وتتم؛ وكأنها حنت نحو المشاهد، وسابقت اللقالق إلى المعاهد، فظلت اللقالق بعدها نزاعاً، وسقطت على آطامها أوزاعاً، وأجدت إقطاعاً، وأجابت من الخصب أمراً مطاعاً، وحازت من الحدائق والبساتين إقطاعاً؛ وسيغرد في روضته المكاء، ويضحكه هذا الوابل البكاء، ونرومه فلا تلحظه ذكاء؛ تحته من الأفنان الناعمة قلاص، وأحصنته من الخضراء التبعية دلاص؛ فالويل لأهل الأقوال المنكرات، والنيل لأهل الثناء والخيرات، والمرعى والسعدان، وأرض بكواكب النور تزدان، وبقاع تدين الغيث كما تدان؛ أذكرها فذكرت، وسكرت من أخلاقه فشكرت، وعرفها ما أنكرت؛ كأنما أعدؤها من أم خارجة نسب أو ملح، قالت لها: خطب فقال: نكح، فمثلت الأزهار بسبيله، ونبتت في مسيله، وثبتت في مسيله، وثبتت كاللحظة في شطي خميله.
فمن نرجس ترنو الرواني بأحداقه، وتستعير الشمس بهجة إشراقه، ويود المسك نفحة انتشاقه، يحسد السندس خضرة ساقه، ويتمناه الحمام بدلاً من أطواقه؛ كحلة ندى تترقرق، أو غصن بان لا يزال يورق.
ومن عرار تغنى مطالعه على عرار، وكلفت به السواري والغوادي كلف عمرو بعرار؛ فجاء كسوالف الغيد ترف، وكوميض الثغور يعبق ويشف.
ومن أقحوان جرى على الثنايا الغر، وسبك من ناصع الدر؛ يقبله النسيم فيعبق، ويصبح الجو بما.... ويغبق، ويستقبله ناظر الشمس فيشرق.
ومن بنفسج كأطواق الورق، أو كاليواقيت الزرق، تشرف بأبدع الخلق، وتألف من الغسق والخلق؛ تلحظه من بين أوراقه نواظر دعج بالأجفان وقيت، وبدموع الكحل سقيت؛ نسيمه ألين من الحرير، ونفسه أعطر من العبير؛ يفاخر به كانون البرد، مفاخرة نيسان بالورد.
وكل ربوة قد أخذت زخرفها وازينت، وبينت من آيات الله ما بينت، كما تتوج في إيوانة كسرى، واستقبلته وفوده تترى، وانقلبت عن حسن ناديه لنواظر حسرى، وكل تلعة مذانب نصولها تسل ومضارب فصولها لا تثنى؛ وأراقم تنساب، ولجين يدأب ويذاب؛ على حافاتها نجوم من النور مشتبكة، وجيوب عن لبات الغواني منتهكة؛ فلو افتتحت الظهور والبطون، ونطقت السهول والحزون، لقالت: {قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون}.
فشكرا لربنا شكراً، وسحقاً للذين بدلوا نعمة الله كفراً؛ اللهم بارئ النسم، ودارئ القسم، وناشر الرحمة والنعم، ومنزل الديم، وباعث الرمم، ومحيي الأمم؛ فإنا نؤمن بقدرك: خيره وشره، ونطوي غيثك على غره، ولا نتعرض لنشره حتى تأذن بنشره، ونعتقد ربوبيتك كل الاعتقاد، ونبرأ إليك من أهل المروق والإلحاد، ونستزيدك من مصالح العباد ومنافع البلاد؛ رزقنا لديك، ونواصينا بيديك، وتوكلنا عليك، وتوجهنا إليك؛ ولا نشرك بك في غيبك أحداً، ولا يجد عبد من دونك ملتحداً؛ تباركت وتعاليت، وأمت الحي وأحييت الميت؛ لا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت، فاكفنا فيمن كفيت، وتولنا فيمن توليت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وتقرأ: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} الآية.
وهذه نسخة رسالة، كتب بها الصاحب فخر الدين عبد الرحمن بن مكانس، تغمده الله برحمته، إلى الشيخ بدر الدين البشتكي عندما زاد النيل الزيادة المفرطة، سنة أربع وثمانين وسبعمائة؛ وهي: ربنا اجعلنا في هذا الطوفان من الآمنين، وسلام على نوح في العالمين.
ما تأخير مولانا بحر العلم وشيخه عن رؤية هذا الما؟، وما قعادة عن زرقة هذا النيل الذي جعل الناس فيه بالتوبة كالملائكة لما غدا هو أيضاً كالسما؟، وكيف لم ير هذا الطوفان الذي استحال للزيادة فما أشبه زيادته بالظّما؛ فهي كزيادة الأصابع الدالة في الكف على نقصه، وأولى أن ننشد بيت المثل بنصه:
طفح السرور علي حتى أنه ** من عظم ما قد سرني أبكاني!

فإنه تقارب أن يمتزج بنهر بل وصل وامتزج؛ وأردنا من عجائبه ما حقق أنه المعني بقول القائل: حدث عن البحر ولا حرج؛ وتجاوز في عشر الثلاثين الحدّ، وأردنا بالمعاينة في كل ساجلٍ منه ما سمعناه عن الجزر والمدّ، وأساء في دفعه فلم يدفع بالتي هي أحسن، وأقعد الماشي عن التسبب والحركة حتى شكا إلى الله في الحالين جور الزمن، وسقى الناس من ماء حياته المعهودة كما شربوا من الموت أصعب كاس، وسئل ابن أبي الرّدّاد عن قياس الزيادة فقال: زاد بلا قياس؛ امتلأ اليباب، وهال العباب، وضاع العدُّ واختلط الحساب؛ كال فطفّف، وزار فما خفف؛ غسل الجسور، وأعاد الإملاق بعزمه إلى البحور، وبرع فكان أولى بقول الحلّي من ابن منصور:
بمكارم تذر السَّبَاسِبَ أبحراً ** وعزائم تذر البحار سباسبا!

جمع في صعوده إلى الجبال بين الحادي والملاح، ودخل الناس إلى أسواق مصر وخصوصاً سوق الرَّقيق على كلِّ جاريةٍ ذات ألواح، وغدا التَّيَّار ينساب في كلّ يمّ كالأيم، وأصبحت هضاب الموج في سماء البحر وكأنّما هي قطع الغيم، واستحالت الأفلاك فكلّ برج مائيّ، وتغيرت الألوان فكلّ ما في الأرض سمائيّ، وحكى ماؤه حكاكة الصّندل لمّا مسّه شيطان الرّيح فتخبّط، وزاد فاستحال نفعه فتحقّق ما ينسب إلى الصّندل من الاستحالة إذا أفرط؛ فلقد حكت أمواجه ودوائره الأعكان والسّرر، وغدا كلّ حيٍّ ميِّتاً من زيادته لا كما قال المعرّي: حيّا من بني مطر؛ وتحالى إلى أن أقرف الليمون الأخضر، واحمرت عينه على الناس فأذاقهم الموت الأحمر؛ ولقد صعب سلوكه وكيف لا؟ وهو البحر المديد، وأصبح كلّ جدول منه جعفراً ويزيد:
فلست أرى إلا إفاضة شاخص ** إليه بعين أو مشيراً بأصبع!

فلكم قال الهرم للسارين يا سارية الجبل، وأنشد وقد شمّر ساقه للخوض: أنا الغريق فما خوفي من البلل؟ وكم قال أبو الهول: لا هول إلا هول هذا البحر، وقال المسافرون: ما رأينا مثل هذا النيل من هنا إلى ما وراء النهر، وقال المؤرخون: لم ننقل كهذه الزيادة من عهد النهروان وإلى هذا الدهر.
وكيف يسوغ لمولانا في هذه الأيام غير ارتشاف فم الخمور؟ ولم لا يغير مذهبه يطيب على هذه الخلج بالسلسل والدور؟؛ وكيف وكيف؟!!، ولم لا يتخذ مولانا حمو النيل وبرده رحلة الشتاء والصيف؟؛ وهو في المبادرة إلى علو المعالي وغلو المعاني، وانتهاز الفرص في بلاغ الآمال وبلوغ الأماني:
عجب من عجائب البر والبح ** ر ونوع فرد وشكل غريب!

نعم:
من قاسكم بسواكم ** قاس البحار إلى الثماد!

أعلى الأنام في العلوم قدرا، وإمام النحاة من عهد سيبويه وهلم جرّا، وشيخ العروضيين على الحقيقة برا وبحرا:
وشيخ سيحون والنيـ ** ـل والفرات ودجلة

وشيخ جيحون أيضاً ** وشيخ نهر الأبلة!

أي والله:
أقولها لو بلغت ما عسى ** الطّبل لا يضرب تحت الكسا!

لا مخبأ لعطر بعد عروس، أنت أعوم في بحور الشعر من ابن قادوس، وأصلح إذا حدثت من صالح بن عبد القدوس، وأشهى إذا هزلت من ابن حجاج إلى النفوس:
ولو أن بحر النيل جاراك مازحاً ** وحقك ما استحلى له الناس زئداً!

نعود إلى ما كنا فيه من وصف النيل، وذكر حاله الذي أصبح كما قال ابن عبد الظاهر: كوجه جميل: فلو رآه مولانا وقد هجم على مصر فجاس خلال الدّيار، ودخل إلى المعشوق فتركه كالعاشق المهجور لم يرمنه غير الآثار، لبكى بعيني عروة، وأوى من الرصد وقد تفجرت من صلد عيون النز إلى ربوة، أورنا لروض الجزيرة وقد خلع حلاه، وتخلخلت عرائس أشجاره على الحالين بالمياه، والنخيل وقد قتلت ملاكها- حين فتك- بالأسف، وجف أحمر ثمرها وأصفره فأرانا العناب والحشف، والجيزة، وقد قلت لها: تباً لجارك النيل إذ أفسدك صورة ومعنى، وسكن مغانيك فسقى ديارك بغير استثنا، وقراها الغريبة وقد قلت لها حين أوت إلى أعالي الأرض هرباً من المياه، واعتصمت بالجبل الغربي: لا عاصم اليوم من أمر الله- وكل سفينة وقد علت على وجه الماء، وارتقت لارتقاء البحر إلى أن اختلطت بالسماء؛ وقد قالت لها أترابها عند الفراق: إلا ترجعي، وقلنا لها نحن على سبيل التفاؤل: يا سماء أقلعي؛ والنيل تبدو عليه القلوع خافية فكأنها الخيام بذي طلوح، وجار على الناس بطغيانه فكأنما هو أخو فرعون مصرا أو ابن طوفان نوح.
فلقد طار النسر مبلول الجناح، ودنا نهر المجرة من السكارى بالشخاتيت إلى أن كاد يدفعه من قام بالراح، ونرجس البسايتن وقد ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، وفارق أحبابه من الرياحين ولم يبق له غير القلانس صديق وغير الماء حميم، والورد وقد قيل له: مالك من آس، وغضن البان وقد قيل له: طوبى لمن عانقك ولا باس، والأسماك وقد ألجمهم العرق، والقلقاس وقد شكا شكوى ابن قلاقس وابنه من الغرق، والقصب بالجيزة وقد شرب ماء النز فهو بئس الشراب، والقصب ببولاق لم ينجه من مشاهدة الغرق إلا كونه غاب، والفارسي بالبساتين وقد ترجل ووقع فأرانا كيف تكسير الأقصاب؛ وقيل للآس: عالج جيرانك بالغيطان فالناس بالناس، وبادر إلى جبر ما كسر فالحاجة تدعو المكسور في الحالين إلى الآس.
هذا وأنا مقيم بالروضة إذ زهت على سائر الرياض، وسلم جوهر حصبائها من أكثر هذه الأعراض؛ وإن اعتلت بالاستسقاء فهو عين الصحة كما ينسب السقم إلى العيون المراض، أو كما قال المملوك قديماً من قصيدة في بعض الأغراض:
وقائل في لحاظ الغيد باقية ** من السقام وما ضمت خصورهم

وفي النسيم فقلت الأمر مشتبه ** عليك فالزم فأنت الحادق الفهم

قلت الصيحيح ولكني بموجبه ** أقول تلك دواة برؤها السقم!

قد أحاط بها النيل إحاطة المراشف باللما، فأشرقت ضياء بين زرقته فكأنها البدر في كبد السماء:
بصحن خدٍّ لم يغض ماؤه ** ولم تخضه أعين الناس!

متعطش مع هذا الطوفان لرياك، متشوف وإن كنت مغازل النجوم الأرضية والسمائية يا بدر لرؤياك؛ لكني يسليني أني ما نظرت إلى النيل إلا رأيتك من سائر الجهات، ولا لمحت بيوت البحر بل البحور رأيتك عمارة الأبيات:
ولا هممت بسرب الماء من عطشٍ ** إلا رأيت خيالاً منك في الماء!

ولكن للعيان لطيف معنى ** له طلب المشاهدة الكليم!

فهلم إلى التمتع برؤية هذا النيل الذي لم تر مثله العيون، والنظر إلى سائر المخلوقات لعمومه وكل في فلك يسبحون؛ فليس يطيب للتلميذ رؤية هذا البحر بغير رؤية شيخه، ولا يلذ له التملي بمشاهدة هذا الفلك ما لم يشرق وجهه وذهنه ببدره ومريخه؛ فما هذا الإهمال؟، وليت شعري يا أديب تشاغلك بأي الأعمال؟، أبالكتابة؟ فلتكن في هذا النيل الذي هو كالطلحية بغير مثال، أو بالنثر والنظم؟ ففي هذا البحر الذي منه تؤخذ الدرر وفيه تضرب الأمثال؛ ولقد ولد فيه الفكر للمملوك، كيف تصادم الأكفاء وقهر الملوك للملوك؛ فإنه لم يسمع في مملكة الإسلام، ولا ورخ في عام من الأعوام، بمثل هذه الزيادة الزائدة، والجري على خرق العادة التي لا جعل الله بها صلة ولا منها عائدة؛ وغاية ما وصل إليه في الماضي من عشرين: فضيق بسعته المسالك، وأوجب المهالك، وتطرق تطرق أهل الجرائم والفساد فقطع الطريق على السالك، وأحوج مرات إلى الاستضحاء لا أحوج الله لذلك.
ودليل ما شمل به من الفساد، وما عامل به البلاد وأهل البلاد، ما قاله أدباء كل عصر، عندما أبيح للمسافر في مد عرضه القصر.
فمن ذلك ما قاله مولانا القاضي الفاضل، وما هو رحمه الله إلا بحر طفح دره، فالله دره، من رسالة: ورود مثاله يتضمن نبأ سطوره العظيمة أمر طوفان النيل التي كأنها جدأوله، وأنه جاد لمؤمله بنفسه التي ليس في يده غيرها فيلتقي الله سائله...........
ومنها: ولم يزل يجري لمستقر له، ويضمه شيئاً فشيئاً إلى أن أدرك آخره أوله حتى إذا تكامل سمو أمواجه حالاً على حال، وتنور أقاصي الأرض في بنية المقياس فأدناها النظر العال، فلم يترك بقعة كانت من قبل فارغة إلا وكلها عند نظره ماق، وليت هواه المعتل كان عدلاً فحمل كلّ غدير ما أطاق؛ وطالما جرى بالصفا ولكن كدر صفاه بهذا المسعى، والمرجو من الله أن يتلو ما أفسده هذا الماء ما يصلحه خروج المرعى.
وما فله القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، سقى الله تلك الألفاظ النيلية صوب الماطر:.. وينهي إليه أمر النيل الذي سر في أوائله الأنفس بأنفس بشرى، ويقص عليه نبأه العظيم الذي ما يرينا من آية إلا هي أكبر من الأخرى، ويصف له ما سقاه إلى الأرض من كل طليعة إذا تنفس الليل تفرق صبحها وتفرى؛ فهو وإن كان خص الله البلاد المصرية بوفوره ووفائه، وأغنى به قطرها عن القطر فلم يحتج إلى مد كافه وفائه، ونزهه عن منة الغمام الذي هو إن جاد فلا بد من شهقة رعده ودفعه بكائه، فقد وطئ بلادها بعسكره العجاج، وزاحم ساحتها بأفواج الأمواج، فعمل فيها بذراعه، ودار عليها بخناقه وتخللها بنزاعه، وحملها على سواري الصواري تحت قلةعه وما هي إلا عمد قلاعه، وزار زرابي الدور المبثوثة، وجاس خلال الحنايا كأن له فيها خبايا موروثة، ومرق كالسهم من قناطره المنكوسة، وعلا زبد حركته ولزلاه ظهرت في باطنه من الأقمار والنجوم أشعتها المعكوسة، وحمل على بركة الفيل حمل الأسود على الأبطال، وجعل المجنونة من تياره المنحدر في السلاسل والأغلال؛ والمرجو من الله أن يزيل أذاه، ويعيد علينا منه ما عهدناه؛ فأن له الإياب الأكبر، وفيه العجائب والعبر؛ فها وجود الوفاء، عند عدم الصفاء، وبلوغ الهرم، إذا احتدم واضطرم؛ وأمن كل فريق، إذا قطع الطريق، وفرح قطان الأوطان، إذا كسر وهو كما يقال: سلطان؛ إلى غير ذلك من خصائصه، ويراءته مع الزيادة من نقائضه؛ طالما فتح أبواب الرحمة بتعليقه، وفاز كل أحد عند رؤية مائه المعصفر بتخليقه.
وما قاله المولى زين الدين عمر الصّفَدِيّ- تغمده الله بعفوه- وجمع له بين حلاوة الكوثر وصفوه: وأما النيل فقد أخذ الدار والسكان، وقال ابن الخامل كما قال ابن النبية: الأمان الأمان، وبكى الناس عندما رأوه مقبلاً عليهم بالطوفان، وانسابت أراقم غدرانه في الإقليم فابتعلت غدران أراقمه، ومحاسيله المتدفق معالمه المجهولة فاستعمل الأقلام في إثبات معالمه، وأحاط بالقرى كالمحاصر فضرب بينها وبين السماء بسور، وأخذ الطريق على السالكين فلا مركب إلا المراكب ولا عاصم إلا البحور.
وما قاله السديد ابن كاتب المرج، نصرة الأقباط، وأحد عمد الشعر المشهورة بالفسطاط؛ فما أطيب مدائحه التي جعلها سوراً بينه وبين النار، وما أعجب رثاؤه: جعل الله قبره بالرحمة كالروض غبّ القطار!!!:
يا نيل يا ملك الأنهار قد شربت ** منك البرايا شراباً طيباً وعداً

وقد دخلت القرى تبغي منافعها ** فعمها بعد فرط النفع منك أذى

فقال يذكر عني أنني ملك ** وتعتدي ناسياً إن الملوك إذا!!

وما قاله شيخنا الشيخ جمال الدين بن نباته الذي أطاعته من الآداب جوانح نظمها ونثرها، وسخرت له بحور الشعر فقالت له الآداب: اختر من درها؛ فسبحان من يسر له ممتنع الكلام وهونه، وجعله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فما أشف دقيق فكره الجليل، وما أكثر ما يضحك زهر تقاطيعه على زهر مقطعات النيل، فما كان إلا مخصوصاً في الأدب ببحور الهبات، وكلامه في العذوبة والبلاغة يزري بالفرات وابن نباته:
فلا عجب للفظي حين يحلو ** فهذا الفطر من ذاك النبات!

وأما النيل فقد استوى على الأرض فثبتت فيها قدمه، وامتد نصل تياره كالسيف الصقيل فقتل الإقليم وهذا الاحمرار إنما هو دمه:
حمرتها من دماء ما قتلت ** والدم في النصل شاهد عجب!

فلم يترك وعداً بل وعيداً إلا وفاه، ولا وهداً بل جبلاً إلا أخفاه، أقبل كالأسد الهصور إذا احتد واضطرم، وجاء من سن الجنادل فتحدر وعلا حتى بلغ أقصى الهرم، وعامل البلاد بالخيلاء وكيف لا؟ وهو سلطان جائر أيد بالنصر، قائلاً: إن كنت بليت بالاحتراق في أرضكم فأنا أفيض بأن أرمي من بروق تياري بشرر كالقصر.
هذا وطالما قابلنا قبلها بوجه جميل، وسمعنا عنه كل خبر خير ثابت ويزيد كما قال جميل، وكل بديع من آثار جود يصبغ الثرى فيخضر بخلاف المشهور عن صبغة الليل، وطالما خصصناه بدعاء فكانت الراحة به كمقياسه ذات بسطة، وكمنازل الخصب بقدومه المبارك ذات غبطة، ومنحناه بولاء وثناء هذا يدور من الإخلاص بفلك وهذا يعذب من البحار بنقطة؛ كم ورد إلى البلاد ضيفاً ومعه القرى، وكم أتى مرسلاً بمعجز آيات الخصب إلى أهل القرى؛ فهو جواد قد خلع الرسن، ساهر في مصالح الخلق وقد ملأ الأمن اجفانهم بالوسن، جامع لأهل مصر من سقياه ومرعاه ووجهه بين الماء والخضرة والوجه الحسن؛ كم بات سير مقاسه يشمل بظله الغائبين والحاضرين، وكم رفع على الوفاء رايةً صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، وبلغ وبلغ بخرير التيار سلامه، وبات الناس بوفائه من حذار الغلاء تحت الستر والسلامة، وخلق صدر العمود وكيف لا يخلق بشير العباد والبلاد، ودعا مصر لأخذ زخرفها فسواء قيل: ذات العمود أو ذات العماد، وبسط يده ببركة الماء فقيل: سلام لك من أصحاب اليمين، وخضب بنانه وأقسم بحصول الخير فقيل لمخضوب البنان يمين، وأشار إلى وصول المد المتتابع، وقبض يده المخلقة على الماء فوفت وما خابت فروج الأصابع، ونادى رائد الوفاء ولكن كم حياة في الأرض لمن ينادي، وتمت أصابع الزيادة ونمت حتى قال الناس: ما ذي أصابع ذي أيادي.
هذا وقد قرنت زرابي الدور المبثوثة بالنمارق، وقال المقياس: تغطت منها الدرج فنال الرجاء وظهرت الدقائق؛ فهو جم المنافع، عذب المنابع، يشار في الحقيقة والمجاز إليه بالأصابع.
فأعاده الله إلى ذلك النفع المعهود، وأرانا منه الأمان من الطوفان إلى أن نرد الحوض المورود، وكفى أهل مصر هذه المصيبة التي إذا أصابتهم قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا ابتلاهم بمثل ما ابتلى به قوماً جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم فإنما يستغشي ثيابه منهم الفقراء في المطر ويجعل أصابعه في آذانه منهم المؤذنون؛ اللهم إنك ولي النعمة، وأولى برحمة خلقك من فيض هذه الرحمة.
وما قاله صاحبنا الشيخ شهاب الدين بن أبي حجله الذي كان أغرب من زرقاء اليمامة، وأعجب إذا ركب بغلته وزرزوره من أبي دلامة، الأديب الذي كان حجة العرب، والناثر الذي كان بنسبته إلى الطيور محرك المناطق وإلى الشعر صناجة الأدب، والناظم الذي كان إذا أنشد مقاطيعه في التشبيب فاق على المواصيل ذوات الطرب، والصديق الذي كانت منه عوائد الوفاء مألوفة، وشيخ الصوفية الذي لا عجب إذا كانت له المقامات الموصوفة، أسكنه الله فسيح الجنان، وخص ذلك الوجه الجميل بالعارض الهتان، من مقامته الزعفرانية عن أبي الرياش: فاعتنقته لدى السلام، وقلت: ما وراءك يا عصام؛ فقد بلغنا أن النيل تزايد دفعه، وأدى إلى الضرر نفعه، فقال: خذ العفو، ولا تكدر بذكر النيل الصفو؛ فقد امتزج بالمعصرات ثجاجه، وأعيى طبيب الغيظان علاجه:
وشرق حتى ليس للشرق مشرق ** وغرب حتى للغرب مغرب!

قلت: فما فعل النغير، بجزيرة الطير، قال: لم يبق بها هاتف يبشر بالصباح، ولا ساع يسعى برجل ولا طائر يطير بجناح، إلا اتخذ نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء، أو أوى إلى جبل يعصمه من الماء، فأذاق بها الحمام الحمام في المروج، وترك أرضها كسماء ما لها من فروج، وتلا على الحمام: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج}. وكم في سماء مائها من نسر واقع، وبومة تصفر على ديارها البلاقع:
ومنهل فيه الغراب ميت ** سقيت منه القوم واستقيت!

قلت: فمصر؟ قال: زحف عليها بعسكره الجرار، ونفط مائه الطيار.
قلت: فالجيزة؟ قال: طغى الماء حتى علا على قناطرها وتجسر، ووقع بها القصب من قامته حين علا عليه الماء وتكسر، فأصبح بعد أخضرار بزته شاحب الإهاب، ناصل الخضاب غارقاً في عقر بحر يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، وقطع طريف زاويتها على من بها من المنقطعين والفقراء، وترك الطالح كالصالح يمشي على الماء، فتنادوا مصبحين، ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، وأدركهم الغرق فأيسوا من الخلاص، وغشيهم من اليم ما غشيهم ولات حين مناصن، وخر عليهم السقف من فوقهم فهدت قواهم، واستغاثوا من كثرة الماء بالذين أمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم.
قلت: فالروضة؟ قال: أحاط بها إحاطة الكمام بزهره، والكأس بحباب خمره:
فكأنها فيه بساط أخضر ** وكأنه فيها طراز مذهب!

فلم يكن لها بدفع أصابعه يدان، وكم أنشد مرجها حين مرج البحرين يلتقيان:
أعيني كفى من فؤادي فإنه ** من البغي سعي اثنين في قتل واحد

قلت: فدار النحاس؟ قال: أنحس حالها، وأفسد ما عليها ومالها فدخل من حمامها الطهر، وقطع الطريق بالجامع الظهر؛ فالحق مجاز بابه بالحقيقة، ورقي منه على درجتين في دقيقة؛ كم اغترف ما جاوره من الغرف غرفاً وأطلق من مائه الأحمر النار بموردة الخلفا.
قلت: فالخليج الحاكمي؟ قال: خرج عسكر موجه بعد الكسر على حميمه ومرق من قسي قنطاره مروق السهم من الرمية.
قلت: فالمنشأة؟ قال: أصبحت للبحر مقرة، بعد أن كانت للعيون قرة، وقيل لمنشئها: أنى يحيى هذه الله بعد موتها قال: يحييها الذي أنشأها أول مرة؛ قد مال على ما فيها من شون الغلال كل الميل، وتركها تتلو بفمها الذي شفتاه مصراعا بابها: يا أبانا منع منا الكيل.
قلت: فجزيرة أروى؟ قال: قد أفسد جل ثمارها، وأتى على مغانيها فلم يدع شيئاً من رديها وخيارها؛ أخلق ديباجة روضها الأنف، وترك قلقاسها في الجروف على شفا جرف:
بعيني رأيت الماء يوما وقد جرى ** على رأسه من شاهق فتكسرا!

طالما تضرع بأصابعه إلى ربه، ولطم برؤوسه الحيطان مما جرى من الماء على قلبه، وتمثل بقول الأول:
وإن سألوك عن قلبي وما قاسى ** فقل قاسى وقل قاسى وقل قاسى

لم يفده تحصنه من ورقه بالدرق والستائر، ولا حنا عليه حين تضرع بأصابعه فصح أن الماء سلطان جائر.
قلت: فحكر ابن الأثير؟ قال: لم يبق منه غير الثلث والثلث كثير؛ قد أخمل من دوره خمائلها، وجعل عاليها سافلها؛ فكم دار أعدم صاحبها قراره، ونادى في عرصاتها المتداعية: إياك أعني فاسمعي يا جارة، فأصبحت بعد نفعها قليلة الجدا، مستوليه عليها يد الردى، شبيهة بدار الدنيا لأنها دار متى أضحكت في يومها أبكت غداً.
قلت: فبولاق؟ قال: إملاق، قد التفت بها من الزلق الساق بالساق، فأتى من النوتية على الصغير والكبير، ومن المراكب وممرها على النقير والقطمير.
هذا بعد أن ترك جامع الخطيري على خطر، وحيطان يانعة الثمر؛ قد دنا قطافها، وحان تلافها؛ فكأني به وقد منع رفده، وتلا على محرابها سورة السجدة.
قلت: فجزيرة الفيل؟ قال: اقتلع أشجارها بشروشها، وترك سواقيها خاوية على عروشها.
قلت: فالتاج والسبعة وجوه؟ قال: هجم على حرمها، وعم الوجوه من فرقها إلى قدمها؛ فبلا ثرى الموت في التخوم، وعنت الوجوه للحي القيوم؛ قلت: فما الحيلة؟، قال: ترك الحيلة:
دعها سماوية تجري على قدر ** لا تفسدنها برأي منك راضي

طال الكتاب، وخرجنا عن فصل الخطاب:
ولربما ساق المحدث بعض ما ** ليس الندي إليه بالمحتاج!

وكأني بقائل يقول: أليس من الكبر أن يستخدم هذا في رسالته ملوك الكلام، ومن الحمق أن يجلي عرائس أفكاره بما للناس من حلي النثار والنظام، فأقول: مسلم أن كل ما أوردته درر وجواهر، وعقود كزهر الربيع عيون وجوهها النواظر نواظر، ولكنها ها هنا أمثل، وجمع شملها على هذي العروس أجمل: وفي عنق الحسناء يستحسن العقد.
وعلى الجملة فيرجع المملوك إلىالتواضع وهو الأليق في الأدب، فيقول: لا عيب على الفقيرة إذا تجملت بحلي الغنية، ولا عار على الجوهري إذا نظم سلكاً كانت درره على الطرق مرمية؛ ونرجع إلى ما ولده الفكر من عجب البحر، وما ظهر من دفع الملوك لأمثالها عن جريها إلى غاياتها بصور القمر، فأقول: إنما قالت الأدباء ذلك لما جرى من جور النيل على الأرض، ولما عم الناس من الإرجاف بطول أذاه وهرجه فكأنما هم في يوم العرض؛ وكل ذلك وما وصل إلى هذا الارتفاع، وربما كان أنقص من هذه الزيادة بقريب الذراع.
وعلى هذا القياس إنما دفع ضرره وجمل في البلاد أثره، وحسن في السماء خبره وفي الأرض مخبره، السري الذي اهتمام بالمعروف معروف، وسيف الدين الذي سهر في مصالح الرعاية لما تنام ملء أجفانها السيوف، أتابك العساكر، والملك الذي هو بالإسلام له منصور وناصر؛ حصن سائر الكوى بالجسور، وركز على أفواه البحر والخليج الأمراء كما يركز المجاهدون على الثغور، وقابل البحر من سطواته بما ليس له به قبل، ورد دفعه بكل دفع من الرأي والتدبير يغني عن البيض والأسل، وحاربه بجيش عزم إلى أن ولى هارباً من التراع والقناطر، وجاهد بجند ركزه على جوانبه لما تحقق أن البحر سلطان جائر، وحصل بالتضييق عليه كما تحصر البرك والتراع، وغلى يده عن التصرف فسقاه الموت كما سقا الناس أنواع النزاع؛ فما هو إلا أن تضاءل بنيران سطواته واحترق، وذل خاضعاً وكفى به تضرعاً بالأصابع وتوسلاً بالملق، وأطاع لما لم تنجه مجاهرته من تياره بالسيوف ولا تحصنه من داراته بالدرق.
على أنه تطأول ليضاهي بأصابعه جود أياديه فقصر وتحسر فركب خيل خيلائه ليحاكي بأسه فوفع من جسور عجبه وتقطر، وسمت نفسه كبراً لأن يبلغ قدره فقيل: يا بحر هذا خليفة الله في أرضه والله أكبر؛ نعم:
رأى البحر الخصم نداه طام ** يفيض على الورى منه بحار

فصار البحر ملتطماً وأضحى ** على الحالين ليس له قرار!

فلو زدت في أيام غيره من الملوك المترفين، وفيمن يؤثر ملاذ نفسه على مصالح المسلمين، كنت أيها الملك بلغت قصدك، وفعلت في أبناء مصرك جهدك، وكنت من الملوك الذين إذا دخلوا قرية انتعلوا فيها الأهلة، وأفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة؛ لكن هب قبولك إدباراً، ولاقت ريحك إعصاراً، فليس لك به قبل، والسيل أدرى بالجبل؛ فما لك سبيل إلى بلاده، ولاطاقة بإياب الخير على عناده، فإنه خادم الحرمين، والمدعو له حتى في مواقف الحرب بين العلمين؛ حامي السواحل والثغور والمخدوم بأيادي السحائب وأصابع البحور، وإن كنت يا أبا خالد أبا جعفر فلست بمنصور؛ والرأي أن تقف مستغفراً وتقول معتذراً، لم أفرط بالزيادة في أيامه، ولم أفض على طرف الميدان إلا لأفوز بتقبيل آثار جواد خيله ومواطئ أقدامه، ونتبع نواهيه ونمتثل أوامره، وندعو له كالرعايا بطول البقاء في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة.
ونحن نسأل الله كما بلغ بك المنافع، أن يرينا كوكب نؤئك عن قريب راجع؛ وكما أغنى بزيادتك عن الاستسقاء، لا يحوجنا في نقصك إلى الاستضحاء، إنه سميع مجيب الدعاء، بمنه وكرمه.